• مرحبا ٬ في حال تعتذر تسجيل الدخول ، يرجى عمل استرجاع كلمه المرور هنا

تفسيــر سور جــزء عــم كاملا للعلامة السعدي رحمه الله

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة ألم نشرح ‏[‏لك صدرك‏]‏

وهي مكية

‏[‏1 ـ 8‏]‏ ‏‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب‏}‏

يقول تعالى ـ ممتنًا على رسوله ـ ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ أي‏:‏ نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله، والاتصاف بمكارم الأخلاق، والإقبال على الآخرة، وتسهيل الخيرات فلم يكن ضيقًا حرجًا، لا يكاد ينقاد لخير، ولا تكاد تجده منبسطًا‏.‏

‏{‏وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ‏}‏ أي‏:‏ ذنبك، ‏{‏الَّذِي أَنْقَضَ‏}‏ أي‏:‏ أثقل ‏{‏ظَهْرَكَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏.‏

‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ أي‏:‏ أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر، فأخرجه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا‏}‏ وكما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا‏)‏ ‏.‏

وتعريف ‏"‏العسر‏"‏ في الآيتين، يدل على أنه واحد، وتنكير ‏"‏اليسر‏"‏ يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين‏.‏

وفي تعريفه بالألف واللام، الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر ـ وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ ـ فإنه في آخره التيسير ملازم له‏.‏

ثم أمر الله رسوله أصلًا، والمؤمنين تبعًا، بشكره والقيام بواجب نعمه، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَب‏}‏ أي‏:‏ إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة والدعاء‏.‏

‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ‏}‏ وحده ‏{‏فَارْغَب‏}‏ أي‏:‏ أعظم الرغبة في إجابة دعائك وقبول عباداتك ‏.‏

ولا تكن ممن إذا فرغوا وتفرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره، فتكون من الخاسرين‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ فإذا فرغت من الصلاة وأكملتها، فانصب في الدعاء، وإلى ربك فارغب في سؤال مطالبك‏.‏

واستدل من قال بهذا القول، على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات، والله أعلم بذلك تمت ولله الحمد‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة والضحى

وهي مكية

‏[‏1 ـ 11‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث‏}‏

أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى، وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته، على اعتناء الله برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ ما تركك منذ اعتنى بك، ولا أهملك منذ رباك ورعاك، بل لم يزل يربيك أحسن تربية، ويعليك درجة بعد درجة‏.‏

‏{‏وَمَا قَلا‏}‏ ك الله أي‏:‏ ما أبغضك منذ أحبك، فإن نفي الضد دليل على ثبوت ضده، والنفي المحض لا يكون مدحًا، إلا إذا تضمن ثبوت كمال، فهذه حال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الماضية والحاضرة، أكمل حال وأتمها، محبة الله له واستمرارها، وترقيته في درج الكمال، ودوام اعتناء الله به‏.‏

وأما حاله المستقبلة، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى‏}‏ أي‏:‏ كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة‏.‏

فلم يزل ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصعد في درج المعالي ويمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله، حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب‏.‏

ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة‏.‏

ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله ‏[‏الخاصة‏]‏ فقال‏:‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ أي‏:‏ وجدك لا أم لك، ولا أب، بل قد مات أبوه وأمه وهو لا يدبر نفسه، فآواه الله، وكفله جده عبد المطلب، ثم لما مات جده كفله الله عمه أبا طالب، حتى أيده بنصره وبالمؤمنين‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ أي‏:‏ وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعلمك ما لم تكن تعلم، ووفقك لأحسن الأعمال والأخلاق‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلًا‏}‏ أي‏:‏ فقيرًا ‏{‏فَأَغْنَى‏}‏ بما فتح الله عليك من البلدان، التي جبيت لك أموالها وخراجها‏.‏

فالذي أزال عنك هذه النقائص، سيزيل عنك كل نقص، والذي أوصلك إلى الغنى، وآواك ونصرك وهداك، قابل نعمته بالشكران‏.‏

‏[‏ولهذا قال‏:‏‏]‏ ‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر‏}‏ أي‏:‏ لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك‏.‏

‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَر‏}‏ أي‏:‏ لا يصدر منك إلى السائل كلام يقتضي رده عن مطلوبه، بنهر وشراسة خلق، بل أعطه ما تيسر عندك أو رده بمعروف ‏[‏وإحسان‏]‏‏.‏

وهذا يدخل فيه السائل للمال، والسائل للعلم، ولهذا كان المعلم مأمورًا بحسن الخلق مع المتعلم، ومباشرته بالإكرام والتحنن عليه، فإن في ذلك معونة له على مقصده، وإكرامًا لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد‏.‏

‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏وهذا يشمل‏]‏ النعم الدينية والدنيوية ‏{‏فَحَدِّث‏}‏ أي‏:‏ أثن على الله بها، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة‏.‏

وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة والليل

وهي مكية

‏[‏1 - 21‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *

لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏

هذا قسم من الله بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد على تفاوت أحوالهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ يعم‏]‏ الخلق بظلامه، فيسكن كل إلى مأواه ومسكنه، ويستريح العباد من الكد والتعب‏.‏

‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏ للخلق، فاستضاءوا بنوره، وانتشروا في مصالحهم‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى‏}‏ إن كانت ‏"‏ ما ‏"‏ موصولة، كان إقسامًا بنفسه الكريمة الموصوفة، بأنه خالق الذكور والإناث، وإن كانت مصدرية، كان قسمًا بخلقه للذكر والأنثى، وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات التي يريد بقاءها ذكرًا وأنثى، ليبقى النوع ولا يضمحل، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة، وجعل كلًا منهما مناسبًا للآخر، فتبارك الله أحسن الخالقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏ هذا ‏[‏هو‏]‏ المقسم عليه أي‏:‏ إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيًرا، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها والنشاط فيها، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال، هل هو وجه الله الأعلى الباقي‏؟‏ فيبقى السعي له ببقائه، وينتفع به صاحبه، أم هي غاية مضمحلة فانية، فيبطل السعي ببطلانها، ويضمحل باضمحلالها‏؟‏

وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله تعالى، بهذا الوصف، ولهذا فصل الله تعالى العاملين، ووصف أعمالهم، فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ ما أمر به من العبادات المالية، كالزكوات، والكفارات والنفقات، والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير، والعبادات البدنية كالصلاة، والصوم ونحوهما‏.‏

والمركبة منهما، كالحج والعمرة ‏[‏ونحوهما‏]‏ ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ ما نهي عنه، من المحرمات والمعاصي، على اختلاف أجناسها‏.‏

‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ صدق بـ ‏"‏ لا إله إلا الله ‏"‏ وما دلت عليه، من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي‏.‏

‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ أي‏:‏ نسهل عليه أمره، ونجعله ميسرا له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ‏}‏ بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، ‏{‏وَاسْتَغْنَى‏}‏ عن الله، فترك عبوديته جانبًا، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه‏.‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة‏.‏

‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ أي‏:‏ للحالة العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان، ومقيضًا له أفعال المعاصي، نسأل الله العافية‏.‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ‏}‏ الذي أطغاه واستغنى به، وبخل به إذا هلك ومات، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح ‏.‏

وأما ماله ‏[‏الذي لم يخرج منه الواجب‏]‏ فإنه يكون وبالًا عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئًا‏.‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ إن الهدى المستقيم طريقه، يوصل إلى الله، ويدني من رضاه، وأما الضلال، فطرق مسدودة عن الله، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى‏}‏ ملكًا وتصرفًا، ليس له فيهما مشارك، فليرغب الراغبون إليه في الطلب، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين‏.‏

‏{‏فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى‏}‏ أي‏:‏ تستعر وتتوقد‏.‏

‏{‏لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ‏}‏ بالخبر ‏{‏وَتَوَلَّى‏}‏ عن الأمر‏.‏

‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏ بأن يكون قصده به تزكية نفسه، وتطهيرها من الذنوب والعيوب ، قاصدًا به وجه الله تعالى، فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ترك واجب، كدين ونفقة ونحوهما، فإنه غير مشروع، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء، لأنه لا يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب‏.‏

‏{‏وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى‏}‏ أي‏:‏ ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى إلا وقد كافأه بها، وربما بقي له الفضل والمنة على الناس، فتمحض عبدًا لله، لأنه رقيق إحسانه وحده، وأما من بقي عليه نعمة للناس لم يجزها ويكافئها، فإنه لا بد أن يترك للناس، ويفعل لهم ما ينقص ‏[‏إخلاصه‏]‏‏.‏

وهذه الآية، وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل قد قيل إنها نزلت في سببه، فإنه ـ رضي الله عنه ـ ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى ولا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، وهي ‏[‏نعمة‏]‏ الدعوة إلى دين الإسلام، وتعليم الهدى ودين الحق، فإن لله ورسوله المنة على كل أحد، منة لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل، فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات، والحمد لله رب العالمين‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة والشمس وضحاها

وهي مكية

‏[‏1 - 15‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏

أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، وغيرها من النفوس الفاجرة، فقال‏:‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ أي‏:‏ نورها، ونفعها الصادر منها‏.‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا‏}‏ أي‏:‏ تبعها في المنازل والنور‏.‏

‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ جلى ما على وجه الأرض وأوضحه‏.‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ أي‏:‏ يغشى وجه الأرض، فيكون ما عليها مظلمًا‏.‏

فتعاقب الظلمة والضياء، والشمس والقمر، على هذا العالم، بانتظام وإتقان، وقيام لمصالح العباد، أكبر دليل على أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه المعبود وحده، الذي كل معبود سواه فباطل‏.‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا‏}‏ يحتمل أن ‏"‏ ما ‏"‏ موصولة، فيكون الإقسام بالسماء وبانيها، الذي هو الله تبارك وتعالى، ويحتمل أنها مصدرية، فيكون الإقسام بالسماء وبنيانها، الذي هو غاية ما يقدر من الإحكام والإتقان والإحسان، ونحو ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا‏}‏ أي‏:‏ مدها ووسعها، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها، بجميع وجوه الانتفاع‏.‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ يحتمل أن المراد نفس سائر المخلوقات الحيوانية، كما يؤيد هذا العموم، ويحتمل أن المراد بالإقسام بنفس الإنسان المكلف، بدليل ما يأتي بعده‏.‏

وعلى كل، فالنفس آية كبيرة من آياته التي حقيقة بالإقسام بها فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل ‏[‏والحركة‏]‏ والتغير والتأثر والانفعالات النفسية، من الهم، والإرادة، والقصد، والحب، والبغض، وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على هذا الوجه آية من آيات الله العظيمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ أي‏:‏ بسبب طغيانها وترفعها عن الحق، وعتوها على رسل الله

‏{‏إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ أي‏:‏ أشقى القبيلة، ‏[‏وهو‏]‏ ‏"‏ قدار بن سالف ‏"‏ لعقرها حين اتفقوا على ذلك، وأمروه فأتمر لهم‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ صالح عليه السلام محذرًا‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ أي‏:‏ احذروا عقر ناقة الله، التي جعلها لكم آية عظيمة، ولا تقابلوا نعمة الله عليكم بسقي لبنها أن تعقروها، فكذبوا نبيهم صالحًا‏.‏

‏{‏فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِم‏}‏ أي‏:‏ دمر عليهم وعمهم بعقابه، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم، والرجفة من تحتهم، فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعيًا ولا مجيبا‏.‏

‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ عليهم أي‏:‏ سوى بينهم بالعقوبة

‏{‏وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ أي‏:‏ تبعتها‏.‏

وكيف يخاف من هو قاهر، لا يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق، الحكيم في كل ما قضاه وشرعه‏؟‏

تمت ولله الحمد
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة البلد

لا أقسم

بهذا البلد مكية

‏[‏1 - 20‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ‏}‏

يقسم تعالى ‏{‏بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ الأمين، الذي هو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصًا وقت حلول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها، ‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ‏}‏ أي‏:‏ آدم وذريته‏.‏

والمقسم عليه قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم‏.‏

وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد‏.‏

ويحتمل أن المعنى‏:‏ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، مقدر على التصرف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، ‏[‏فإنه‏]‏ لم يشكر الله على هذه النعمة ‏[‏العظيمة‏]‏، بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه‏.‏ فـ ‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا‏}‏ أي‏:‏ كثيًرا، بعضه فوق بعض‏.‏

وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق‏.‏

قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ أيحسب في فعله هذا، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير‏؟‏

بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر‏.‏

ثم قرره بنعمه، فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ‏}‏ للجمال والبصر والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا، ثم قال في نعم الدين‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن‏}‏ أي‏:‏ طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي‏.‏

فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك‏.‏

‏{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ أي‏:‏ لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لشهواته ‏.‏

وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر ‏[‏هذه‏]‏ العقبة ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار‏.‏

‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة‏.‏

‏{‏يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ جامعًا بين كونه يتيمًا، فقيرًا ذا قرابة‏.‏

‏{‏أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة‏.‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم‏.‏ من كل قول وفعل واجب أو مستحب‏.‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ على طاعة الله وعن معصيته، وعلى أقدار المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على الانقياد لذلك، والإتيان به كاملًا منشرحًا به الصدر، مطمئنة به النفس‏.‏

‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف، الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏ لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه، وهذا عنوان السعادة وعلامتها‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، ‏[‏ولا آمنوا به‏]‏، ولا عملوا صالحًا، ولا رحموا عباد الله، ‏{‏والذين كفروا بآياتنا همْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مغلقة، في عمد ممددة، قد مدت من ورائها، لئلا تنفتح أبوابها، حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة ‏[‏والحمد لله‏]‏‏.‏

 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة الفجر

وهي مكية

‏[‏1 - 5‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ‏}‏

الظاهر أن المقسم به، هو المقسم عليه، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًا، وهو كذلك في هذا الموضع‏.‏

فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح‏:‏ ليالي عشر رمضان، أو ‏[‏عشر‏]‏ ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها‏.‏

وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام‏.‏

وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها‏.‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏ أي‏:‏ وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون، رحمة منه تعالى وحكمة‏.‏

‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ‏}‏ المذكور ‏{‏قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏لذي‏]‏ عقل‏؟‏ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

‏[‏6 - 14‏]‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ بقلبك وبصيرتك كيف فعل بهذه الأمم الطاغية، وهي ‏{‏إِرَمَ‏}‏ القبيلة المعروفة في اليمن ‏{‏ذَاتِ الْعِمَادِ‏}‏ أي‏:‏ القوة الشديدة، والعتو والتجبر‏.‏

‏{‏الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا‏}‏ أي‏:‏ مثل عاد ‏{‏فِي الْبِلَادِ‏}‏ أي‏:‏ في جميع البلدان ‏[‏في القوة والشدة‏]‏، كما قال لهم نبيهم هود عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏.‏

‏{‏وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ‏}‏ أي‏:‏ وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن، ‏{‏وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ذي‏]‏ الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها، ‏{‏الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ‏}‏ هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم طغوا في بلاد الله، وآذوا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال‏:‏

‏{‏فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ‏}‏ وهو العمل بالكفر وشعبه، من جميع أجناس المعاصي، وسعوا في محاربة الرسل وصد الناس عن سبيل الله، فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ لمن عصاه يمهله قليلًا، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر‏.‏

‏[‏15 - 20‏]‏ ‏{‏فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏

يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا ‏{‏قدر عَلَيْهِ رِزْقُهُ‏}‏ أي‏:‏ ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه هذا الحسبان‏:‏ بقوله ‏{‏كَلَّا‏}‏ أي‏:‏ ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل‏.‏

وأيضًا، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين، فقال‏:‏ ‏{‏كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ‏}‏ الذي فقد أباه وكاسبه، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه‏.‏

فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم، وعدم الرغبة في الخير‏.‏

‏{‏وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين‏}‏ أي‏:‏ لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المحاويج من المساكين والفقراء، وذلك لأجل الشح على الدنيا ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ‏}‏ أي‏:‏ المال المخلف ‏{‏أَكْلًا لَمًّا‏}‏ أي‏:‏ ذريعًا، لا تبقون على شيء منه‏.‏

‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏ أي‏:‏ كثيرًا شديدًا، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ ‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ‏}‏ ‏.‏

‏[‏21 - 30‏]‏ ‏{‏كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏

‏{‏كَلَّا‏}‏ أي‏:‏ ليس ‏[‏كل‏]‏ ما أحببتم من الأموال، وتنافستم فيه من اللذات، بباق لكم، بل أمامكم يوم عظيم، وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت‏.‏

ويجيء الله تعالى لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، أهل السماوات كلهم، صفًا صفا أي‏:‏ صفًا بعد صف، كل سماء يجيء ملائكتها صفا، يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار‏.‏

‏{‏وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ‏}‏ تقودها الملائكة بالسلاسل‏.‏

فإذا وقعت هذه الأمور فـ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ‏}‏ ما قدمه من خير وشر‏.‏

‏{‏وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ فقد فات أوانها، وذهب زمانها، يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏ الدائمة الباقية، عملًا صالحًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا‏}‏ ‏.‏

وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها، هي الحياة في دار القرار، فإنها دار الخلد والبقاء‏.‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏ لمن أهمل ذلك اليوم ونسي العمل له‏.‏

‏{‏وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏ فإنهم يقرنون بسلاسل من نار، ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، فهذا جزاء المجرمين، وأما من اطمأن إلى الله وآمن به وصدق رسله، فيقال له‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ‏}‏ إلى ذكر الله، الساكنة ‏[‏إلى‏]‏ حبه، التي قرت عينها بالله‏.‏

‏{‏ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ‏}‏ الذي رباك بنعمته، وأسدى عليك من إحسانه ما صرت به من أوليائه وأحبابه ‏{‏رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً‏}‏ أي‏:‏ راضية عن الله، وعن ما أكرمها به من الثواب، والله قد رضي عنها‏.‏

‏{‏فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة، وتخاطب به حال الموت ‏[‏والحمد لله رب العالمين‏]‏‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة الغاشية

وهي مكية

‏[‏1 - 16‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏

يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون ‏[‏إلى‏]‏ فريقين‏:‏ فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير‏.‏

فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في ‏[‏وصف‏]‏ أهل النار‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏خَاشِعَة‏}‏ من الذل، والفضيحة والخزي‏.‏

‏{‏عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ تاعبة في العذاب، تجر على وجوهها، وتغشى وجوههم النار‏.‏

ويحتمل أن المراد ‏[‏بقوله‏:‏‏]‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ‏}‏ في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان، صار يوم القيامة هباء منثورا، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحًا من حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف أهل النار عمومًا، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها ؛ ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ أي‏:‏ شديدًا حرها، تحيط بهم من كل مكان، ‏{‏تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ حارة شديدة الحرارة ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ‏}‏ فهذا شرابهم‏.‏

وأما طعامهم فـ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ‏}‏ وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين‏:‏ إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل الله العافية‏.‏

وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة ‏{‏نَاعِمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا غاية السرور‏.‏

‏{‏لِسَعْيِهَا‏}‏ الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله، ‏{‏رَاضِيَةٍ‏}‏ إذ وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك أنها ‏{‏فِي جَنَّةٍ‏}‏ جامعة لأنواع النعيم كلها، ‏{‏عَالِيَةٍ‏}‏ في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة‏.‏

‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ كثيرة الفواكه اللذيذة، المثمرة بالثمار الحسنة، السهلة التناول، بحيث ينالونها على أي‏:‏ حال كانوا، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة، أو يستعصي عليهم منها ثمرة‏.‏

‏{‏لَا تَسْمَعُ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ الجنة ‏{‏لَاغِيَةً‏}‏ أي‏:‏ كلمة لغو وباطل، فضلًا عن الكلام المحرم، بل كلامهم كلام حسن ‏[‏نافع‏]‏ مشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم، و‏[‏على‏]‏ الآداب المستحسنة بين المتعاشرين، الذي يسر القلوب، ويشرح الصدور‏.‏

‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ‏}‏ وهذا اسم جنس أي‏:‏ فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف شاءوا، وأنى أرادوا‏.‏

‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ‏}‏ و ‏"‏ السرر ‏"‏ جمع ‏"‏ سرير ‏"‏ وهي المجالس المرتفعة في ذاتها، وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة‏.‏

‏{‏وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ‏}‏ أي‏:‏ أوان ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وضعت بين أيديهم، وأعدت لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم، يطوف بها عليهم الولدان المخلدون‏.‏

‏{‏وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ وسائد من الحرير والاستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أريحوا عن أن يضعوها، و يصفوها بأنفسهم‏.‏

‏{‏وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏ والزرابي ‏[‏هي‏:‏‏]‏ البسط الحسان، مبثوثة أي‏:‏ مملوءة بها مجالسهم من كل جانب‏.‏


‏[‏17 - 26‏]‏ ‏{‏أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم‏}‏

يقول تعالى حثًا للذين لا يصدقون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولغيرهم من الناس، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ألا‏]‏ ينظرون إلى خلقها البديع، وكيف سخرها الله للعباد، وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها‏.‏

‏{‏وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت‏}‏ بهيئة باهرة، حصل بها استقرار الأرض وثباتها عن الاضطراب، وأودع فيها من المنافع ‏[‏الجليلة‏]‏ ما أودع‏.‏

‏{‏وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت‏}‏ أي‏:‏ مدت مدًا واسعًا، وسهلت غاية التسهيل، ليستقر الخلائق على ظهرها، ويتمكنوا من حرثها وغراسها، والبنيان فيها، وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها‏.‏

واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها، كما دل على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة، كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس، خصوصًا في هذه الأزمنة، التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد، فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدًا، الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر‏.‏

وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة ، فيكون كرويًا مسطحًا، ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة‏.‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ‏}‏ أي‏:‏ ذكر الناس وعظهم، وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم، ولم تبعث مسيطرًا عليهم، مسلطًا موكلًا بأعمالهم، فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏ ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ‏}‏ أي‏:‏ لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله ‏{‏فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ الشديد الدائم، ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم‏}‏ أي‏:‏ رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم‏}‏ فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر‏.‏

آخر تفسير سورة الغاشية، والحمد لله رب العالمين
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة سبح

وهي مكية

‏[‏1 ـ 19‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى *بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏

يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحا، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم، وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها، أي‏:‏ أتقنها وأحسن خلقها، ‏{‏وَالَّذِي قَدَّرَ‏}‏ تقديرًا، تتبعه جميع المقدرات ‏{‏فَهَدَى‏}‏ إلى ذلك جميع المخلوقات‏.‏

وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها نعمه الدنيوية، ولهذا قال فيها‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏}‏ أي‏:‏ أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات والعشب الكثير، فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان ، ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب، ألوى نباته، وصوح عشبه، ‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى‏}‏ أي‏:‏ أسود أي‏:‏ جعله هشيمًا رميمًا، ويذكر فيها نعمه الدينية، ولهذا امتن الله بأصلها ومنشئها ، وهو القرآن، فقال‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى‏}‏ أي‏:‏ سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئًا، وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله سيعلمه علمًا لا ينساه‏.‏

‏{‏إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة، ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى‏}‏ ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي‏:‏ فلذلك يشرع ما أراد، ويحكم بما يريد ، ‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى‏}‏ وهذه أيضًا بشارة كبيرة ، أن الله ييسر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليسرى في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسرا ‏.‏

‏{‏فَذَكِّر‏}‏ بشرع الله وآياته ‏{‏إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى‏}‏ أي‏:‏ ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه‏.‏

ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأمورًا بها، بل منهيًا عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين‏:‏ منتفعون وغير منتفعين‏.‏

فأما المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله‏:‏ ‏{‏سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى‏}‏ الله تعالى، فإن خشية الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه على أعماله ، توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات‏.‏

وأما غير المنتفعين، فذكرهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى‏}‏ وهي النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا‏}‏ أي‏:‏ يعذب عذابًا أليمًا، من غير راحة ولا استراحة، حتى إنهم يتمنون الموت فلا يحصل لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا‏}‏ ‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏ أي‏:‏ قد فاز وربح من طهر نفسه ونقاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق، ‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ أي‏:‏ اتصف بذكر الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصًا الصلاة، التي هي ميزان الإيمان، فهذا معنى الآية الكريمة، وأما من فسر قوله ‏{‏تزكى‏}‏ بمعني أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه فصلى، أنه صلاة العيد، فإنه وإن كان داخلًا في اللفظ وبعض جزئياته، فليس هو المعنى وحده‏.‏

‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة‏.‏

‏{‏وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏}‏ وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ المذكور لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار المستحسنة ‏{‏لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏}‏ اللذين هما أشرف المرسلين، سوى النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم‏.‏

فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان‏.‏

تم تفسير سورة سبح، ولله الحمد‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة الطارق

وهي مكية

‏[‏1 ـ 17‏]‏ ‏‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏

يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ‏}‏

ثم فسر الطارق بقوله‏:‏ ‏{‏النَّجْمُ الثَّاقِبُ‏}‏

أي‏:‏ المضيء، الذي يثقب نوره، فيخرق السماوات ‏[‏فينفذ حتى يرى في الأرض‏]‏، والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه ‏"‏ زحل ‏"‏ الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها‏.‏ وسمي طارقًا، لأنه يطرق ليلًا‏.‏

والمقسم عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها‏.‏

‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ‏}‏ أي‏:‏ فليتدبر خلقته ومبدأه، فإنه مخلوق ‏{‏مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ‏}‏ وهو‏:‏ المني الذي ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏}‏ يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها‏.‏

ويحتمل أن المراد المني الدافق، وهو مني الرجل، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه، ولعل هذا أولى، فإنه إنما وصف الله به الماء الدافق، والذي يحس ‏[‏به‏]‏ ويشاهد دفقه، هو مني الرجل، وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل، فإن الترائب للرجل، بمنزلة الثديين للأنثى، فلو أريدت الأنثى لقال‏:‏ ‏"‏من بين الصلب والثديين‏"‏ ونحو ذلك، والله أعلم‏.‏

فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور ‏[‏والجزاء‏]‏ ، وقد قيل‏:‏ إن معناه، أن الله على رجع الماء المدفوق في الصلب لقادر، وهذا ـ وإن كان المعنى صحيحًا ـ فليس هو المراد من الآية، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ‏}‏ أي‏:‏ تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عيانًا للناس، وأما في القيامة، فيظهر بر الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية‏.‏

‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ يدفع بها عن نفسه ‏{‏وَلَا نَاصِرٍ‏}‏ خارجي ينتصر به، فهذا القسم على حالة العاملين وقت عملهم وعند جزائهم‏.‏

ثم أقسم قسمًا ثانيًا على صحة القرآن، فقال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ‏}‏ أي‏:‏ ترجع السماء بالمطر كل عام، وتنصدع الأرض للنبات، فيعيش بذلك الآدميون والبهائم، وترجع السماء أيضًا بالأقدار والشئون الإلهية كل وقت، وتنصدع الأرض عن الأموات، ‏{‏إِنَّه‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏}‏ أي‏:‏ حق وصدق بين واضح‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ‏}‏ أي‏:‏ جد ليس بالهزل، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات‏.‏

‏{‏إِنَّهُم‏}‏ أي‏:‏ المكذبين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللقرآن ‏{‏يَكِيدُونَ كَيْدًا‏}‏ ليدفعوا بكيدهم الحق، ويؤيدوا الباطل‏.‏

‏{‏وَأَكِيدُ كَيْدًا‏}‏ لإظهار الحق، ولو كره الكافرون، ولدفع ما جاءوا به من الباطل، ويعلم بهذا من الغالب، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده‏.‏

‏{‏فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا‏}‏ أي‏:‏ قليلًا، فسيعلمون عاقبة أمرهم، حين ينزل بهم العقاب‏.‏

تم تفسير سورة الطارق، والحمد لله رب العالمين‏.‏
 

آل بهلـول

๑ . . عضو مخضرم . . ๑
التسجيل
29 يونيو 2008
رقم العضوية
9183
المشاركات
7,351
مستوى التفاعل
1,077
العمر
42
الجنس
الإقامة
~** قلبي في المسجد **~

تفسير سورة البروج

وهي مكية

‏[‏1 ـ 22‏]‏ ‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‏}‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ذات‏]‏ المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته، وسعة علمه وحكمته‏.‏

‏{‏وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ‏}‏ وهو يوم القيامة، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه، ويضم فيه أولهم وآخرهم، وقاصيهم ودانيهم، الذي لا يمكن أن يتغير، ولا يخلف الله الميعاد‏.‏

‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏ وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي‏:‏ مبصر ومبصر، وحاضر ومحضور، وراء ومرئي‏.‏

والمقسم عليه، ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة، وحكمه الظاهرة، ورحمته الواسعة‏.‏

وقيل‏:‏ إن المقسم عليه قوله ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ‏}‏ وهذا دعاء عليهم بالهلاك‏.‏

و‏{‏الأخدود‏}‏ الحفر التي تحفر في الأرض‏.‏

وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم للدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون من ذلك، فشق الكافرون أخدودًا ‏[‏في الأرض‏]‏، وقذفوا فيها النار، وقعدوا حولها، وفتنوا المؤمنين، وعرضوهم عليها، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال‏:‏ ‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ‏}‏ ثم فسر الأخدود بقوله‏:‏ ‏{‏النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ‏}‏ وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد أي‏:‏ الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله‏.‏

‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ خلقًا وعبيدًا، يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه ، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ علمًا وسمعًا وبصرًا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله ، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك‏؟‏ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجاز لهم على فعالهم ‏؟‏ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل‏.‏

ثم وعدهم، وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ‏}‏ أي‏:‏ العذاب الشديد المحرق‏.‏

قال الحسن رحمه الله‏:‏ انظروا إلى هذا الكرم والجود، هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التوبة‏.‏

ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بقلوبهم ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ بجوارحهم ‏{‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ‏}‏ الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته‏.‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام ‏[‏لقوية‏]‏ شديدة، وهو بالمرصاد للظالمين كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ أي‏:‏ هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته، فلا مشارك له في ذلك ، ‏{‏وَهُوَ الْغَفُورُ‏}‏ الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب‏.‏

‏{‏الْوَدُودُ‏}‏ الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال، والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه، التابعة لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعًا لها، كانت عذابًا على أهلها، وهو تعالى الودود، الواد لأحبابه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ والمودة هي المحبة الصافية، وفي هذا سر لطيف، حيث قرن ‏{‏الودود‏}‏ بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال‏:‏ بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين‏.‏

بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب، من رجل له راحلة، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، فأضلها في أرض فلاة مهلكة، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو على تلك الحال، إذا راحلته على رأسه، فأخذ بخطامها، فالله أعظم فرحًا بتوبة العبد من هذا براحلته، وهذا أعظم فرح يقدر‏.‏

فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر إحسانه، وأوسع امتنانه‏"‏

‏{‏ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ‏}‏ أي‏:‏ صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات والأرض والكرسي، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض، وخص الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على قراءة الجر، يكون ‏{‏المجيد‏}‏ نعتا للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإن المجيد نعت لله ، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها‏.‏

‏{‏فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ‏}‏ أي‏:‏ مهما أراد شيئًا فعله، إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، وليس أحد فعالًا لما يريد إلا الله‏.‏

فإن المخلوقات، ولو أرادت شيئًا، فإنه لا بد لإرادتها من معاون وممانع، والله لا معاون لإرادته، ولا ممانع له مما أراد‏.‏

ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله، فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُود‏}‏ وكيف كذبوا المرسلين، فجعلهم الله من المهلكين‏.‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد، لا تنفع فيهم الآيات، ولا تجدي لديهم العظات‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ‏}‏ أي‏:‏ قد أحاط بهم علمًا وقدرة، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏}‏ ففيه الوعيد الشديد للكافرين، من عقوبة من هم في قبضته، وتحت تدبيره‏.‏

‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ وسيع المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم‏.‏

‏{‏فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‏}‏ من التغيير والزيادة والنقص، ومحفوظ من الشياطين، وهو‏:‏ اللوح المحفوظ الذي قد أثبت الله فيه كل شيء‏.‏

وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته، ورفعة قدره عند الله تعالى، والله أعلم‏.‏

تم تفسير السورة‏.‏
 
عودة
أعلى