فارس
Ω وما توفيقي إلا بالله Ω
- التسجيل
- 10 نوفمبر 2008
- رقم العضوية
- 9781
- المشاركات
- 2,399
- مستوى التفاعل
- 1,838
- الجنس
- الإقامة
- الإمارات
[align=justify]
نجيب .. هذا هو اسمه ، شاب ممشوق القوام ، مفتول العضل ، جريء الصدر شهم الفؤاد ، مع دعابة وظرف ، ومرح لا ينقضي .
ـ هل عندك يا حاتم خبر عن نجيب ، فإني أفتقده ؟ هل هو مريض ؟
ـ هو في أمان الله ، ولكن ثريّا زوجته هي المريضة .
ـ منذ كم ؟
ـ منذ شهر .
ـ ومم تشكو ؟
ـ يقولون إنها ( ممسوسة ) ، فهي لا تتكلم ، ولا تبتسم ، ولا تشتهي الطعام ولا تذوق الكرى ، وقد عُدْتها بالأمس فوجدتها مطروحة على الفراش ، زائغة البصر ، ساهمة الوجه ، ترفع يداً وتضع أخرى . ثم تبكي من غير سبب ، وتنتفض من غير حمى ، ويدركها الذهول حيناً فتغمض عينيها ولا تتحرك .
وكانت أمها على رأسها تروِّح عليها ، ونجيب بجانبها يذب عنها ، وأبوها أمام الحجرة سارح الفكر في حزن ، فسألتُ أمها :
ـ كيف حال ثريّا ؟
ـ كما ترى . وقد ذهبتُ اليوم ومعي منديلها إلى الشيخ فرج ؛ فقاس الأثر وفتح الكتاب ، ثم قال إنها ألقت ماءً بالليل أمام الفرن ولم تبسمل ، فوقع على أطفال من الجن فتلبَّسها أبوهم . ولقد كتب لها حجابا كبيراً فعلقته على صدرها ، ورسم بالحبر أشكالاً في طبق ثم محاها بالماء وسقيناها إياه فشربته ؛ ولكن ثريّا لا تزال ذابلة ذاهلة ، لا يطمئن بها فراش ، ولا يسكن لها عرق !
ـ ولماذا لا تطلبون لها الشيخ عبد الجبار ؟
ـ لقد فكرنا في ذلك . وسيذهب نجيب بعد صلاة العشاء يدعوه .
والشيخ عبد الجبار هذا ضرير في حدود الستين ، نحيل البدن ، ولكنه قوي الجسم متين العصب . كان معلم الصبيان في القرية . وقد تنفس به العمر حتى ربَّى جيلين من رجالها ؛ فكان يتمتع لذلك بنفوذ واسع واحترام عظيم . وهو شديد الدهاء رزين الطبع ، ثم أكسبته مزاولة التعليم على الأسلوب القديم سلاطةَ اللسان وخشونة اليد وقساوة القلب ، فقلَّما تخرّج من كُتَّابه متخرجٌ دون أن تصاحبه عاهة في بدنه . لقد كان يضرب الصبي بالجريدة حتى يفقد الوعي . ثم يتركه لأنه تعِبَ لا لأنه أشفق . وكان إذا تهدد أو توعد ظهر غضبه المتسعر في مقلتيه الجاحظتين على رغم انطفائهما ؛ فلم أر أعمى يؤثر بعينيه غيره . وكانوا يسمونه ( جلاد الشيطان ) لأن الجن المؤذي يرتعد خوفاً من طلعته . وليس الجن وحدهم هم الذين كانوا يرهبونه ، فقد كان الناس إذا مر الشيخ عبد الجبار في ثوبه الأسود ويده على كتف قائده ورأسه الدقيق غائب في عمامته الضخمة وخده الشاحب مصعر للناس وأذنه المنصوبة مرهفة للغط الطريق ، وقفوا صامتين راهبين كأن جنازة تمر !
لقد كنت وا أسفا من شهود هذا الحادث الفاجع ، فأنا أقصه عليك كم حدث . لا يزال على طول العهد حياً في ذاكرتي ، رهيباً في نفسي كأنه وقع بالأمس ، والحوادث اليسيرة تجد خلودها في أعماق الحافظة ، فكيف بالحادث الجلل ؟!
جاء نجيب بالشيخ عبد الجبار بعد صلاة العشاء إلى ثريّا . وأقبل أهل الحارة ومن سمع من رجال القرية إلى البيت الحزين ، يساهمون في الرجاء والدعاء والأسف . فملأوا الحُجرة وشغلوا الدهليز وتناثروا خارج الدار . وكانت ثريّا ساهمة كأنها صورة الحلم الهنيء . فلما دخل الشيخ عليها حملقت بعينيها ثم صرخت صرخة شديدة . فتمتم النساء آسفات وقال بعضهن لبعض : عرف الشيطان جلاَّدَه ففزع ! ليت ذلك كان من زمن !
جلس عبد الجبار عند قدمي ثريّا ، وجلس بجانبه معاون له ومعه حزمة من جريد النخل المشذب المصقول مما يستعمله في تأديب الغلاظ الشداد من " أولاد المكتب" ، ودواة من الخزف الأخضر وقلم من القصب الأبيض ، وخرقة بالية معقودة على شيء . ثم أخذ يسألها سؤال العارف :
ـ ماذا بكِ يا ثريّا ؟
ـ لا شيء يا شيخ
فلما رأى الشيخ الصوت طبيعياً والجواب عادياً قال لنفسه وهو يُسمِع الناس :
ـ هيه ! لقد هرب . ولا بد من استحضاره .
ثم فك العقدة عما في الخرقة فإذا هو فتات من اللبان والبخور . ودعا المعاون بموقد النار فوضع فيه البخور فملأ أريجُه الحجرة . حينئذ أخذ الشيخ يتلو العزائم بصوت يشبه الدمدمة فلا يكاد يتبين منها حرف. ثم كان يتحمس عند بعض المقاطع فيشتد ويحتد ويذكر بعض الأسماء الغريبة ، حتى هيّج دخان البخور وصراخ الشيخ وازدحام الحجرة أعصابَ المسكينة فاختلجت أطرافها اختلاجاً أحسه الأعمى . فأمسك عن التلاوة وأمر برفع الموقد وأشار إلى معاونه أن يبدأ العمل .
تقدم المعاون وتناول يدها اليمنى وكتب على ظفر إبهامها كلمة أملاها عليه الشيخ همساً . ثم كتب كلمة أخرى على ظفر السبابة ، ثم على أظفار الوسطى والبنصر والخنصر . وفعل باليد اليسرى ما فعل باليمنى . ثم تناول القدمين متعاقبتين فكتب على أظافرهما العشرة ما أملاه الشيخ الضرير عليه ، ثم أعلن بعد ذلك جلاد الشيطان أنه حبس العفريت في جسمها فلا يستطيع الهرب . وانقلبت سحنة الشيخ فجأة ، فاربدّ وجهُه ، وجحظت عيناه ، وغلى دمه ، وصاح في غلامه :
ـ جواد ! هاتِ ( الفلقة ) !
وجاء جواد بالفلقة فوضعها في قدمي ثريّا مكان الخلخال الفضي اللامع ، ثم شدها ، وأمسك من طرف وأمسك شاب آخر من طرف . واستل الأعمى جريدة من الحزمة وبرك على ركبتيه وفرك يده ، ثم أنحى على المريضة المنهوكة ضرباً متتابعاً لو كان على جبل لهدَّه !
كانت ثريّا تصرخ صراخاً عالياً من الضرب الموجع ، والقوم صامتون وفي سرهم الشماتة بالشيطان الذي يلتمس الرحمة فلا يجد ، ويحاول الفرار فلا يستطيع .
تحطمت الجريدة الأولى ، فوقف عبد الجبار وأقبل بوجهه الضامر على ثريّا الضارعة وقال في تهديد وحنق :
ـ هيه ! قل لي ما اسمك ؟
ـ ؟
ـ أمؤمن أنت أم كافر؟
ـ ؟
ـ قل لي من أي الفصائل أنت ؟
ـ ؟
ـ أتعاهدني على تركها وأنا أسامحك وأطلقك ؟
ـ ؟
كان الأعمى يلقي هذه الأسئلة المتحدية على العفريت الموهوم ، وثريّا تئن أنيناً متصلاً في خفوت وضراعة ، والقوم حولها ينتظرون إجابة الشيطان وأبصارهم شاهقة وأنفاسهم محبوسة ، والألسنة خارج الحجرة تتناقل صمته الغريب في همس وعجب ، والشيخ عبد الجبار يحدق بعينيه البيضاوين في عين المصباح الخافت ويقول : ما رأيت أعند من هذا الملعون ! يا جواد ! هاتِ الجريدة الثانية !
وشد الفلقةَ جوادٌ من جديد ، وبرك الشيخ الجبار على ركبتيه من جديد ، ثم شرع يدق القدمين النحيلتين دقاً عنيفاً بالجريدة الثقيلة ! وهبّت قوى الفتاة الباقية تدافع الألم الممض بالصراخ الدامع والاستغاثة المبتهِلة :
ـ أنقذيني يا أمّاه ! أغثني يا نجيب ! : أنا أموت ! ليس بي شيء ! آآآآه !
لم يجد هذا الهتاف المؤلم سمعاً من أحد ؛ لأنهم يعتقدون بإخلاص أن المارد العنيد يخدعهم عن نفسه ، وأن ثريّا الحقيقية النائمة في غلاف من العفريت لا تدري ولا تحس .
وكلَّت يد الجبار من الضرب ، فحل محله شاب قوي . وتحطمت الجريدة الثانية والثالثة ، وجلاد الشيطان يعيد الأسئلة بين فترة وفترة فلا يسمع إلا الجواب الطبيعي أو الأنين المستسلِم .
وزاد عجب الناس من عناد الجني الكافر ، واشتد سخط نجيب على هذا الرجيم الذي غلبه على زوجته ، فتناول الجريدة الرابعة ووقف بجانب الأعمى وقد كان يهمهم ويدمدم ، وأخذ يلهب قدمي حبيبته بالعصا الغليظة المبرومة !
وثريّا ....
أوه ! لا تسلني حينئذ عن حال ثريّا . إن في بعض مظاهر النّفْس ودلالات الملامح ما يقف أمامه البيان الإنساني أبكم لا ينطق ، وعَيِيًّا لا يُبين . وماذا عسى اللفظ العصي الجامد أن يصور لك حال ثريّا وقد فتحت عينينها الداميتين فوجدت نجيب ـ ملجأ فزعها ومرقأ دمعها ـ يصب بجهله على جسمها الناحل كل هذا العذاب ؟
لم تعد ثريّا تصرخ ولا تستغيث ، وإنما كانت تنتفض للضربة والضربة انتفاضة الملسوع . ثم ترسل مدامعها الغزار في صمت ، وتزمُّ شفتيها الرقيقتين في مضض ، وفجأةً وقعت عينُ نجيبٍ على هذا الوجه المحتضر ، فاسترخت يداه وارتمى على الأرض منخرطاً في البكاء .
فنادى عبد الجبار بصوته الأجش :
ـ جواد ! أعد نظرك في الأظافر فلعل بعضها قد امحت عنه الكتابة فهرب .
ففحص المعاون أطراف البنان المرسلة وأصابع القدمين الممزقة ، ثم قال بنبرة الواثق بعمله :
ـ الكتابة سليمة يا شيخ .
حينئذ أخذ الجبار يفكر في عذاب آخر ، ولكنه أراد أن ينذر به الجني قبل تنفيذه . فزحف حتى بلغ رأس المريضة ، ثم ألصق فمه بأذنها وأخذ يُسارُّ الجني .
ولكن ما باله ارتبك ؟ إنه ولا ريب لاحظ كما لاحظ القوم أن ثريّا تتنفس نفساً لا يكاد لضعفه يُدرك ، وأن الشياطين مهما عُذبت لا تخمد هذا الخمود . فأحس الخطر وتوقع الكارثة . وأراد أن ( ينقذ الموقف ) فقال :
لقد وعدني العفريت أن يشاور نفسه ، فدعوه الآن هادئاً يفكر حتى يصبح الصباح .
وفي الصبح ذهب عبد الجبار وادعاً يفتح الكُتَّاب ، وذهب أبو ثريّا هالعاً يفتح القبر !
ومن ذلك اليوم مات نجيب الذي عرفته في أول القصة ، وعاش في جسمه المهدود مخلوقٌ آخر لا هو شخص ولا هو شيء !
[/align]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نجيب .. هذا هو اسمه ، شاب ممشوق القوام ، مفتول العضل ، جريء الصدر شهم الفؤاد ، مع دعابة وظرف ، ومرح لا ينقضي .
ـ هل عندك يا حاتم خبر عن نجيب ، فإني أفتقده ؟ هل هو مريض ؟
ـ هو في أمان الله ، ولكن ثريّا زوجته هي المريضة .
ـ منذ كم ؟
ـ منذ شهر .
ـ ومم تشكو ؟
ـ يقولون إنها ( ممسوسة ) ، فهي لا تتكلم ، ولا تبتسم ، ولا تشتهي الطعام ولا تذوق الكرى ، وقد عُدْتها بالأمس فوجدتها مطروحة على الفراش ، زائغة البصر ، ساهمة الوجه ، ترفع يداً وتضع أخرى . ثم تبكي من غير سبب ، وتنتفض من غير حمى ، ويدركها الذهول حيناً فتغمض عينيها ولا تتحرك .
وكانت أمها على رأسها تروِّح عليها ، ونجيب بجانبها يذب عنها ، وأبوها أمام الحجرة سارح الفكر في حزن ، فسألتُ أمها :
ـ كيف حال ثريّا ؟
ـ كما ترى . وقد ذهبتُ اليوم ومعي منديلها إلى الشيخ فرج ؛ فقاس الأثر وفتح الكتاب ، ثم قال إنها ألقت ماءً بالليل أمام الفرن ولم تبسمل ، فوقع على أطفال من الجن فتلبَّسها أبوهم . ولقد كتب لها حجابا كبيراً فعلقته على صدرها ، ورسم بالحبر أشكالاً في طبق ثم محاها بالماء وسقيناها إياه فشربته ؛ ولكن ثريّا لا تزال ذابلة ذاهلة ، لا يطمئن بها فراش ، ولا يسكن لها عرق !
ـ ولماذا لا تطلبون لها الشيخ عبد الجبار ؟
ـ لقد فكرنا في ذلك . وسيذهب نجيب بعد صلاة العشاء يدعوه .
والشيخ عبد الجبار هذا ضرير في حدود الستين ، نحيل البدن ، ولكنه قوي الجسم متين العصب . كان معلم الصبيان في القرية . وقد تنفس به العمر حتى ربَّى جيلين من رجالها ؛ فكان يتمتع لذلك بنفوذ واسع واحترام عظيم . وهو شديد الدهاء رزين الطبع ، ثم أكسبته مزاولة التعليم على الأسلوب القديم سلاطةَ اللسان وخشونة اليد وقساوة القلب ، فقلَّما تخرّج من كُتَّابه متخرجٌ دون أن تصاحبه عاهة في بدنه . لقد كان يضرب الصبي بالجريدة حتى يفقد الوعي . ثم يتركه لأنه تعِبَ لا لأنه أشفق . وكان إذا تهدد أو توعد ظهر غضبه المتسعر في مقلتيه الجاحظتين على رغم انطفائهما ؛ فلم أر أعمى يؤثر بعينيه غيره . وكانوا يسمونه ( جلاد الشيطان ) لأن الجن المؤذي يرتعد خوفاً من طلعته . وليس الجن وحدهم هم الذين كانوا يرهبونه ، فقد كان الناس إذا مر الشيخ عبد الجبار في ثوبه الأسود ويده على كتف قائده ورأسه الدقيق غائب في عمامته الضخمة وخده الشاحب مصعر للناس وأذنه المنصوبة مرهفة للغط الطريق ، وقفوا صامتين راهبين كأن جنازة تمر !
لقد كنت وا أسفا من شهود هذا الحادث الفاجع ، فأنا أقصه عليك كم حدث . لا يزال على طول العهد حياً في ذاكرتي ، رهيباً في نفسي كأنه وقع بالأمس ، والحوادث اليسيرة تجد خلودها في أعماق الحافظة ، فكيف بالحادث الجلل ؟!
جاء نجيب بالشيخ عبد الجبار بعد صلاة العشاء إلى ثريّا . وأقبل أهل الحارة ومن سمع من رجال القرية إلى البيت الحزين ، يساهمون في الرجاء والدعاء والأسف . فملأوا الحُجرة وشغلوا الدهليز وتناثروا خارج الدار . وكانت ثريّا ساهمة كأنها صورة الحلم الهنيء . فلما دخل الشيخ عليها حملقت بعينيها ثم صرخت صرخة شديدة . فتمتم النساء آسفات وقال بعضهن لبعض : عرف الشيطان جلاَّدَه ففزع ! ليت ذلك كان من زمن !
جلس عبد الجبار عند قدمي ثريّا ، وجلس بجانبه معاون له ومعه حزمة من جريد النخل المشذب المصقول مما يستعمله في تأديب الغلاظ الشداد من " أولاد المكتب" ، ودواة من الخزف الأخضر وقلم من القصب الأبيض ، وخرقة بالية معقودة على شيء . ثم أخذ يسألها سؤال العارف :
ـ ماذا بكِ يا ثريّا ؟
ـ لا شيء يا شيخ
فلما رأى الشيخ الصوت طبيعياً والجواب عادياً قال لنفسه وهو يُسمِع الناس :
ـ هيه ! لقد هرب . ولا بد من استحضاره .
ثم فك العقدة عما في الخرقة فإذا هو فتات من اللبان والبخور . ودعا المعاون بموقد النار فوضع فيه البخور فملأ أريجُه الحجرة . حينئذ أخذ الشيخ يتلو العزائم بصوت يشبه الدمدمة فلا يكاد يتبين منها حرف. ثم كان يتحمس عند بعض المقاطع فيشتد ويحتد ويذكر بعض الأسماء الغريبة ، حتى هيّج دخان البخور وصراخ الشيخ وازدحام الحجرة أعصابَ المسكينة فاختلجت أطرافها اختلاجاً أحسه الأعمى . فأمسك عن التلاوة وأمر برفع الموقد وأشار إلى معاونه أن يبدأ العمل .
تقدم المعاون وتناول يدها اليمنى وكتب على ظفر إبهامها كلمة أملاها عليه الشيخ همساً . ثم كتب كلمة أخرى على ظفر السبابة ، ثم على أظفار الوسطى والبنصر والخنصر . وفعل باليد اليسرى ما فعل باليمنى . ثم تناول القدمين متعاقبتين فكتب على أظافرهما العشرة ما أملاه الشيخ الضرير عليه ، ثم أعلن بعد ذلك جلاد الشيطان أنه حبس العفريت في جسمها فلا يستطيع الهرب . وانقلبت سحنة الشيخ فجأة ، فاربدّ وجهُه ، وجحظت عيناه ، وغلى دمه ، وصاح في غلامه :
ـ جواد ! هاتِ ( الفلقة ) !
وجاء جواد بالفلقة فوضعها في قدمي ثريّا مكان الخلخال الفضي اللامع ، ثم شدها ، وأمسك من طرف وأمسك شاب آخر من طرف . واستل الأعمى جريدة من الحزمة وبرك على ركبتيه وفرك يده ، ثم أنحى على المريضة المنهوكة ضرباً متتابعاً لو كان على جبل لهدَّه !
كانت ثريّا تصرخ صراخاً عالياً من الضرب الموجع ، والقوم صامتون وفي سرهم الشماتة بالشيطان الذي يلتمس الرحمة فلا يجد ، ويحاول الفرار فلا يستطيع .
تحطمت الجريدة الأولى ، فوقف عبد الجبار وأقبل بوجهه الضامر على ثريّا الضارعة وقال في تهديد وحنق :
ـ هيه ! قل لي ما اسمك ؟
ـ ؟
ـ أمؤمن أنت أم كافر؟
ـ ؟
ـ قل لي من أي الفصائل أنت ؟
ـ ؟
ـ أتعاهدني على تركها وأنا أسامحك وأطلقك ؟
ـ ؟
كان الأعمى يلقي هذه الأسئلة المتحدية على العفريت الموهوم ، وثريّا تئن أنيناً متصلاً في خفوت وضراعة ، والقوم حولها ينتظرون إجابة الشيطان وأبصارهم شاهقة وأنفاسهم محبوسة ، والألسنة خارج الحجرة تتناقل صمته الغريب في همس وعجب ، والشيخ عبد الجبار يحدق بعينيه البيضاوين في عين المصباح الخافت ويقول : ما رأيت أعند من هذا الملعون ! يا جواد ! هاتِ الجريدة الثانية !
وشد الفلقةَ جوادٌ من جديد ، وبرك الشيخ الجبار على ركبتيه من جديد ، ثم شرع يدق القدمين النحيلتين دقاً عنيفاً بالجريدة الثقيلة ! وهبّت قوى الفتاة الباقية تدافع الألم الممض بالصراخ الدامع والاستغاثة المبتهِلة :
ـ أنقذيني يا أمّاه ! أغثني يا نجيب ! : أنا أموت ! ليس بي شيء ! آآآآه !
لم يجد هذا الهتاف المؤلم سمعاً من أحد ؛ لأنهم يعتقدون بإخلاص أن المارد العنيد يخدعهم عن نفسه ، وأن ثريّا الحقيقية النائمة في غلاف من العفريت لا تدري ولا تحس .
وكلَّت يد الجبار من الضرب ، فحل محله شاب قوي . وتحطمت الجريدة الثانية والثالثة ، وجلاد الشيطان يعيد الأسئلة بين فترة وفترة فلا يسمع إلا الجواب الطبيعي أو الأنين المستسلِم .
وزاد عجب الناس من عناد الجني الكافر ، واشتد سخط نجيب على هذا الرجيم الذي غلبه على زوجته ، فتناول الجريدة الرابعة ووقف بجانب الأعمى وقد كان يهمهم ويدمدم ، وأخذ يلهب قدمي حبيبته بالعصا الغليظة المبرومة !
وثريّا ....
أوه ! لا تسلني حينئذ عن حال ثريّا . إن في بعض مظاهر النّفْس ودلالات الملامح ما يقف أمامه البيان الإنساني أبكم لا ينطق ، وعَيِيًّا لا يُبين . وماذا عسى اللفظ العصي الجامد أن يصور لك حال ثريّا وقد فتحت عينينها الداميتين فوجدت نجيب ـ ملجأ فزعها ومرقأ دمعها ـ يصب بجهله على جسمها الناحل كل هذا العذاب ؟
لم تعد ثريّا تصرخ ولا تستغيث ، وإنما كانت تنتفض للضربة والضربة انتفاضة الملسوع . ثم ترسل مدامعها الغزار في صمت ، وتزمُّ شفتيها الرقيقتين في مضض ، وفجأةً وقعت عينُ نجيبٍ على هذا الوجه المحتضر ، فاسترخت يداه وارتمى على الأرض منخرطاً في البكاء .
فنادى عبد الجبار بصوته الأجش :
ـ جواد ! أعد نظرك في الأظافر فلعل بعضها قد امحت عنه الكتابة فهرب .
ففحص المعاون أطراف البنان المرسلة وأصابع القدمين الممزقة ، ثم قال بنبرة الواثق بعمله :
ـ الكتابة سليمة يا شيخ .
حينئذ أخذ الجبار يفكر في عذاب آخر ، ولكنه أراد أن ينذر به الجني قبل تنفيذه . فزحف حتى بلغ رأس المريضة ، ثم ألصق فمه بأذنها وأخذ يُسارُّ الجني .
ولكن ما باله ارتبك ؟ إنه ولا ريب لاحظ كما لاحظ القوم أن ثريّا تتنفس نفساً لا يكاد لضعفه يُدرك ، وأن الشياطين مهما عُذبت لا تخمد هذا الخمود . فأحس الخطر وتوقع الكارثة . وأراد أن ( ينقذ الموقف ) فقال :
لقد وعدني العفريت أن يشاور نفسه ، فدعوه الآن هادئاً يفكر حتى يصبح الصباح .
وفي الصبح ذهب عبد الجبار وادعاً يفتح الكُتَّاب ، وذهب أبو ثريّا هالعاً يفتح القبر !
ومن ذلك اليوم مات نجيب الذي عرفته في أول القصة ، وعاش في جسمه المهدود مخلوقٌ آخر لا هو شخص ولا هو شيء !
تمت ،،،