المحجبة
:: اللؤلؤة المضيئة ::
- التسجيل
- 30 يونيو 2004
- رقم العضوية
- 1929
- المشاركات
- 5,735
- مستوى التفاعل
- 76
- الجنس
- الإقامة
- الإمارات
معذَّبٌ بين أهله ! ( قصة تذرف لها الدموع )
قصة شاب مستقيم يعاني من أهل بيته
في ظلمة الليل الحالك .. وحيث الضوء الخافت يختلس النور من الغلس ، فينشر رداءه في حجرة أحمد ..
لا تكاد تسمع إلاَّ همهمته وهو يدعو ربَّه في سجوده ، كأنه الجذع المنصوب ، قد اختلطت عِباراته بعبراته ..
انعكس ضوء القمر على دمعته الساخنة التي جرت على خده كحبة لؤلؤ منثور ..
وفجأة !
إذا بصوت [سيارة] يشق السكون .. يطعن الصمت بخنجر الضجيج ..
عجباً ! من سيأتي إلينا في آخر الليل ؟! ماذا يريد منا ؟ وما الذي جاء به إلينا ؟!
يقطع هذا الترقُّب وتلك التصورات صوت خالد ـ أخوه الأكبر ـ وهو يودِّع أصحابه في آخر الليل بعد أن قضى معهم سهرة طويلة .. ملئت بكلِّ رذيلة !
عبثٌ .. معاكسات .. مطاردات .. دخان .. أغان .. فواحش ..
سلسلة من القذارات تلطَّخت بها الأوقات ، وضاعت بها الأعمار ..
أرخى أحمد ستائر حجرته في وجه الظلام العابس . وأخذ يتمتم بالدعاء لأخيه الغافل ..
مسكين أنت يا خالد !
تطعن نفسك بسكين الغفلة ، وأنت لا تشعر !
والله لو ذقتَ ما أنا فيه من السرور والسكون لرغبت فيما أنا فيه من طاعة وعبادة .. وراحة وسعادة ..
ولكنه الشيطان .. عدو الأمن والإيمان .
أعوذ بالله منه .. أعوذ بالله منه ..
ثم قام ليتم القيام ..
وانطرح خالد في فراشه كالجيفة ..
ليلد الفجر من رحم الظلام !
*****************
خرج أحمد من منزله مصبحاً متوجهاً نحو المسجد ليصلي مع جموع المسلمين يخطو خطوة من بعد أخرى .. لتعصف الخواطر برأسه ، وتتفجَّر براكين الأسى بقلبه على أهله النائمين / المكبلين عن الطاعة بقيود المعصية .
رضوا بأن يكونوا من الخوالف !
يا لهف نفسي عليهم !
يحترقون .. يحترقون .. فمتى يفيقون من غفلتهم ؟! ومتى ينتبهون من رقدتهم ؟!
آه .. لو يذوقون لذَّة الطاعة !
لو يشعرون بحلاوة القرب من الله !
لو يتمتعون بنعيم الأنس بالله !
ماذا أصنع لهم لأخرجهم من شراك المعصية وشباك الغفلة ؟!
هل أقول لهم : أنتم أشقياء ! بؤساء ! تعساء ! معذَّبون !
يا ليتهم يشعرون ؛ ماذا يخسرون !
وإلى مقت من يتعرَّضون !
لقد كنت مثلهم .. في غفلتهم ..
كانت سلوتي في السهو واللهو .. وأحلامي حكراً على التفاهات ..
فريقٌ يفوز .. وآخر يخسر ..
هنا نرقص .. وهنا نفحِّط .. وها هنا نسهر !
هذا فيلم رائع ! وتلك مسرحية شائقة ! وتلك قصَّة رائقة !
كانت سعادتي في صوت حبيبتي المزيفة حين يخترق حُجب الصمت لينفذ كالسهم نحو حبَّة القلب .
كانت آمالي تنصبُّ على ملك سيارة فارهة ، وشقَّة فاخرة ، وجهاز اتصال .. ومال .. وجمال ..
أحلام بلهاء .. وآمال جوفاء ..
كسرابٍ بقيعة أو بيوت من رمال !
هكذا أردتني المعاصي ، وأخزتني الموبقات حتى كدت أهلك ..
فلك الحمد يا ربي !
أحييت قلبي بعد موته ، وأيقظت جذوة الإيمان في فؤادي بعد أن خبت تحت ركام السيئات ، وأنبتَّ بذرة اليقين في قلبي لتثمر طاعة لربي .. تسرُّ الناظرين !
انهمرت الذكريات على عقل أحمد كالمطر .. وتتابعت كموج البحر ..
ليلج إلى بيت ربه ، فيخلع على عتبة بابه دثار الهموم والغموم ..
إنَّه في ضيافة أكرم الأكرمين ، وكفى !
************
جلس أحمد في مكان صلاته ، يذكر الله تعالى ويستغفره ، حتى ارتفع قرص الشمس عن الأرض .. فراق يعقبه عِناق !
ليمرَّ عليه أصدقاؤه الصالحون / الناصحون .
ليذهبوا به إلى مقرِّ نشاطهم بجوار أحد المساجد حيث المتعة والفائدة ، والجو الإيماني العبق .. والصحبة الصالحة .
لا تسمع منهم ما يضرّ .. ولا ترى فيهم إلا ما يسرّ ..
كلمات حانية ، وبسمات راضية ، وأخلاق سامية ، ومعاملة فاضلة .
تشعر معهم أن قلبك يخفق بقوَّة ، كقوة الحب في الله التي تجمع هؤلاء الغرباء ، وكأنما أنت بينهم كلبنة بين جنبات بنيان عظيم .
ويعود أحمد إلى منزله قبل صلاة الظهر ليستقبله والده بوابل من السباب ، يوجع القلب ويمض الفؤاد ويعكِّر المزاج ..
أما قلت لك مراراً : لا تمشي مع هؤلاء [ المطاوعة ] !
أما حذرتك منهم ؟ ألم أنهك عنهم ؟
إنَّك تتلذّذ بعنادي ومخالفة أمري ..
يا لك من ولدٍ عاق ! سيئ الأخلاق !
لم تسكن هذه العاصفة الهوجاء من الهجاء إلا على دمعات حزينة تحدَّرت من محجر أحمد كانت كفيلة بإسكات الوالد الهائج كالبحر المائج .
هيَّا .. هيَّا ..
أُغرب عن وجهي .. أذهب من أمامي ، وإلاَّ أوسعتك ضرباً وركلاً بقدمي هذه ..
لملم أحمد حزنه في قلبه ، وكفكف دمعه في عيونه ، ومشى بخطوات ثقيلة نحو فراشه ليرمي بنفسه كالجريح ، ويلتحف بالغطاء ، ليجهش بالبكاء !
ربَّاه .. ربَّاه ..
متى يبزغ النور ؟! متى ينبلج الضياء ؟! متى يأتي الفرج ؟!
بهدايتهم .. أو .. بخروجي عنهم ؟!
يا ربِّ ! ثبتني .. فإني أتزلزل .. أتضعضع .. أتململ !
غدوت كشجرة خضراء تصفعها العاصفة وتلطمها الريح الهوجاء ..
************
البيت له دويٌّ قوي ..
فنغمات المعازف تكاد تدكدكه ..
انسَّل أحمد من حجرته ليخرج إلى مصدر الصوت .
إنَّه خالد !
يتراقص كالحيَّة ، ويتمايل كالثعبان ..
ويله من نفسه !
ألا يدري أن الله يسمعه ؟!
ألا يشعر أن مولاه يراه ؟!
أهكذا تُبدَّل نعمة الله كفراً ؟! وفضله وجوده جحوداً و نكراً ؟!
أهكذا نعصيه بنعمه ؟! ونتمرَّد عليه بفضله ؟!
فماذا نقول له إذا لقيناه ؟ وبأي حجة نعتذر منه إذا رأيناه ؟!
كم نغفل عمَّن لا يغفل !
الصراخ يتعالى .. والنداء يتوالى ..
يا خالد .. يا خالد ..
إنه أبي ينادي أخي !
اخفض صوت هذه الأغنية ، فإني في الحجرة المقابلة أتابع فيلم السهرة ..
لقد أزعجتني بهذا الصوت .. أذهبت متعتي ، وبدَّدت سلوتي ..
والد غافل .. وولد فاشل ..
عاد أحمد بعد أن رأى هذا المشهد ليضطجع على فراشه ..
وضع شريط القرآن في أداة التسجيل ليأتي صوت القارئ العذب كوابل يهمي فيلامس شِغاف القلب المكدود ، أو كديمة حالمة تعانق زهرة باسمة ، فتحت ذراعيها للسماء في صفاء !
كم أنتم ـ يا أهلي ـ في سبات !
والله لو تعلمون ما أنا فيه من السعادة لجالدتموني عليها بالسيوف !
كيف استبدلتم كتاب الله بهذا الغثاء القبيح ؟!
كيف سلوتم عن ذكر الله ، وتسليتم بالغفلة عنه ؟!
أما شعرتم بحرقة الحرمان منه ؟!
كم غرَّتكم أنفسكم ! وغرَّكم بالله الغرور !
***************
غرس أحمد وجهه بين دفتي كتاب نافع يقرأ فيه ، فإذا بصوت والدته يصيح فيه ..
فأجابها على الفور ..
أماه ! ماذا تريدين ؟
أريدك أن تذهب بي إلى السوق .
سمعاً وطاعة ، وحبَّاً وكرامة .. ولكن !
تبعثرت الحروف على شفتيه ، وتناثرت الكلمات في فيه ..
ماذا تريد أن تقول ؟
أماه ! إنه لا يجوز لك أن تخرجي إلى مجامع الناس بهذه العباءات المزركشة ، وهذه العطور الفائحة ، وهذه الأيدي والأرجل المكشوفة ، وهذا النقاب وهذه ...
انفجرت في وجهه كالبركان .. قذفته بالحِمم .. لتنكأ الجراح وتزيد في الألم ..
أيُّها العاصي ! لم يبق في الدنيا إلاَّ أنت ! تأمرني وتنهاني ..
ما هذه المصيبة العجيبة ؟!
من غيرَّ طبعك ؟ من بدَّل حالك ؟
كيف استطاع أن يقذفنا بهذه الداهية ؟ ويسيء إلينا بهذه الإساءة البالغة ؟
لهفي عليك !
استلَّت من معجم الألفاظ القاسية ما يوجع ، غرستها في قلبه كالسهام الجارحة ، ثم ولَّت جامحة ، لتركب مع سائقها لوحدها إلى السوق !
أما أحمد ، فعاد إلى حجرته ، والعود أحمد ..
ضاقت عليه جدرانها ، أطبقت على صدره أركانها ، حبس الهواء في جوفه وكأنما يتنفس في خرم إبرة ..
رفع بصره إلى السماء .. أغمض عينيه .. أحرقته حسرته ، فغلبته عبرته ، وعاد إلى كتابه لينيخ فوق صفحاته ركابه !
*******************
إيقاد شمعة في الظلام خير من لعنه ألف عام ..
فهيَّا .. هيَّا يا أحمد ..أوقد شمعة ضياء بين دياجير الظلام الحالك ..
أخذ كتابه بيده ، وذهب إليهم حيث يجتمعون ..
حسناً ! الجميع هنا .. ولكن حول هذا الشيطان الأكبر !
ينظرون فيه ، ويسمعون منه ، ما ينقص إيمانهم ، ويضعف يقينهم ، ويرجف في قلوبهم ..
نظروا إليه بنظرة واحدة ، ثم التفتوا عنه التفاتة واحدة ..
لم ينهزم ..
هكذا الأنبياء كانوا يفعلون !
صمود في وجه الصدود .. وجلد في مقارعة الجمود ..ومقاومة المقاومة ..
صبرٌ في البداية ، وظفرٌ في النهاية ..
بدأ يقرأ لهم من كتابه .. كلمات معدودة وأسطر محدودة ، فإذا بهم يتبادلون البسمات الساخرة في خلسة ، والغمزات المستهزئة في خفية ..
كتموها ، ثم أبدوها .. فإذا بضحكاتهم تجلجل في أذنيه كصوت الرعد القاصف ، وابتساماتهم تتردد في عينيه كالبرق الخاطف ..
الأم هنا .. والأب هناك ..
أما الأخ والأخت فانقلبا على ظهورهما ضاحكين ..
وبدأ الكلام كالسهام ..
يتندرون به ، ويضحكون عليه ، ويسخرون منه ..
حتى سالت دموعهم على خدودهم من الضحك ..
أما هو فسالت دمعته على صفحة خده من البكاء ..
رآها الجميع .. سقطت من عينيه لتقع عند قدميه ..
وذهب أحمد ، والحزن يعصف به من كل جانب ، والألم يحيط بقلبه من كل صوب
لقد رأى نفسه كالفريسة الضعيفة بين مخالب وأنياب من يمزقها إرباً إرباً ..
ألجمه الموقف بلجام الصمت .. حتى ما عاد يقوى على الكلام ..
وودَّ لو أنه صاح فيهم ؛ يا أهلاه !
أما لهذه الغواية من نهاية ؟!
أما لهذا الضلال من زوال ؟!
إنما هذه الحياة الدنيا متاع ، والآخرة هي دار القرار .
والعمر حلم عابر ، ولا بُدَّ لهذا الليل من آخر !
طوى حزنه بين ضلوعه ، وغمس ألمه في دموعه ، عاد إلى حجرته ، ليخلد إلى وحدته .
***************
انكسر حاجز الصمت بينهم ..
فأصبح الأخوة يستهزئون بأحمد في كل وقت .. على عين الأب وسمع الأم ..
يسألون عن حكم المعازف ، فإذ قال حرام .. رفعوا صوتها عنده .. وانطلقوا في الضحك كالمجانين .
ويسألونه عن حكم مشاهدة المسلسلات .. فينهاهم عنها ويحذرهم منها ..
فإذ ما رأوا فيها موقفاً مشيناً ومنظراً مخزيا .. صاحوا فيه ؛ فما رأيك في هذا ؟! ثم ينطلقون في الضحك ..
فإذا سمع منادي الخير ينادي ؛ حي َّ على الصلاة ..
ناداهم إليها ، ورغبهم فيها ، وهم لا يبالون به ، ولا يلتفتون إليه ، فإذا ما زاد عليهم في الحديث ، سخروا منه ، وأعرضوا عنه ، وقالوا : يكفينا أنت [ يا مطوع !]
الإيمان في القلب ! ونحن قلوبنا نظيفة ! وأنت قلبك مريض ..
يزكون أنفسهم ، وكأنما إيمانهم في قلوبهم كالملائكة ..
ويلمزونه من طرف خفي ، ويطعنون في إخلاصه وصدقه ..
فإذا ما غلبتهم حجته ، قالوا في ثقة : ستعود كما كنت !
ولن تصبر أكثر من هذا ..
لن تقاوم التيار .. و تواجه الإعصار .. وستسقط من عليائك مع تعاقب الليل والنهار ..
فيصيح فيهم ؛ ولو تخطفتني الطير ! ولو مُزقتُ كلَّ ممزَّق ! إن شاء الله .
يصرون على الهلاك .. ويلحُّ على الفكاك ..
فسارت ركائبه ذات اليمين ، وأسرعت كتائبهم ذات الشمال ، فأنَّى يلتقيان ؟!
*********************
قصة شاب مستقيم يعاني من أهل بيته
في ظلمة الليل الحالك .. وحيث الضوء الخافت يختلس النور من الغلس ، فينشر رداءه في حجرة أحمد ..
لا تكاد تسمع إلاَّ همهمته وهو يدعو ربَّه في سجوده ، كأنه الجذع المنصوب ، قد اختلطت عِباراته بعبراته ..
انعكس ضوء القمر على دمعته الساخنة التي جرت على خده كحبة لؤلؤ منثور ..
وفجأة !
إذا بصوت [سيارة] يشق السكون .. يطعن الصمت بخنجر الضجيج ..
عجباً ! من سيأتي إلينا في آخر الليل ؟! ماذا يريد منا ؟ وما الذي جاء به إلينا ؟!
يقطع هذا الترقُّب وتلك التصورات صوت خالد ـ أخوه الأكبر ـ وهو يودِّع أصحابه في آخر الليل بعد أن قضى معهم سهرة طويلة .. ملئت بكلِّ رذيلة !
عبثٌ .. معاكسات .. مطاردات .. دخان .. أغان .. فواحش ..
سلسلة من القذارات تلطَّخت بها الأوقات ، وضاعت بها الأعمار ..
أرخى أحمد ستائر حجرته في وجه الظلام العابس . وأخذ يتمتم بالدعاء لأخيه الغافل ..
مسكين أنت يا خالد !
تطعن نفسك بسكين الغفلة ، وأنت لا تشعر !
والله لو ذقتَ ما أنا فيه من السرور والسكون لرغبت فيما أنا فيه من طاعة وعبادة .. وراحة وسعادة ..
ولكنه الشيطان .. عدو الأمن والإيمان .
أعوذ بالله منه .. أعوذ بالله منه ..
ثم قام ليتم القيام ..
وانطرح خالد في فراشه كالجيفة ..
ليلد الفجر من رحم الظلام !
*****************
خرج أحمد من منزله مصبحاً متوجهاً نحو المسجد ليصلي مع جموع المسلمين يخطو خطوة من بعد أخرى .. لتعصف الخواطر برأسه ، وتتفجَّر براكين الأسى بقلبه على أهله النائمين / المكبلين عن الطاعة بقيود المعصية .
رضوا بأن يكونوا من الخوالف !
يا لهف نفسي عليهم !
يحترقون .. يحترقون .. فمتى يفيقون من غفلتهم ؟! ومتى ينتبهون من رقدتهم ؟!
آه .. لو يذوقون لذَّة الطاعة !
لو يشعرون بحلاوة القرب من الله !
لو يتمتعون بنعيم الأنس بالله !
ماذا أصنع لهم لأخرجهم من شراك المعصية وشباك الغفلة ؟!
هل أقول لهم : أنتم أشقياء ! بؤساء ! تعساء ! معذَّبون !
يا ليتهم يشعرون ؛ ماذا يخسرون !
وإلى مقت من يتعرَّضون !
لقد كنت مثلهم .. في غفلتهم ..
كانت سلوتي في السهو واللهو .. وأحلامي حكراً على التفاهات ..
فريقٌ يفوز .. وآخر يخسر ..
هنا نرقص .. وهنا نفحِّط .. وها هنا نسهر !
هذا فيلم رائع ! وتلك مسرحية شائقة ! وتلك قصَّة رائقة !
كانت سعادتي في صوت حبيبتي المزيفة حين يخترق حُجب الصمت لينفذ كالسهم نحو حبَّة القلب .
كانت آمالي تنصبُّ على ملك سيارة فارهة ، وشقَّة فاخرة ، وجهاز اتصال .. ومال .. وجمال ..
أحلام بلهاء .. وآمال جوفاء ..
كسرابٍ بقيعة أو بيوت من رمال !
هكذا أردتني المعاصي ، وأخزتني الموبقات حتى كدت أهلك ..
فلك الحمد يا ربي !
أحييت قلبي بعد موته ، وأيقظت جذوة الإيمان في فؤادي بعد أن خبت تحت ركام السيئات ، وأنبتَّ بذرة اليقين في قلبي لتثمر طاعة لربي .. تسرُّ الناظرين !
انهمرت الذكريات على عقل أحمد كالمطر .. وتتابعت كموج البحر ..
ليلج إلى بيت ربه ، فيخلع على عتبة بابه دثار الهموم والغموم ..
إنَّه في ضيافة أكرم الأكرمين ، وكفى !
************
جلس أحمد في مكان صلاته ، يذكر الله تعالى ويستغفره ، حتى ارتفع قرص الشمس عن الأرض .. فراق يعقبه عِناق !
ليمرَّ عليه أصدقاؤه الصالحون / الناصحون .
ليذهبوا به إلى مقرِّ نشاطهم بجوار أحد المساجد حيث المتعة والفائدة ، والجو الإيماني العبق .. والصحبة الصالحة .
لا تسمع منهم ما يضرّ .. ولا ترى فيهم إلا ما يسرّ ..
كلمات حانية ، وبسمات راضية ، وأخلاق سامية ، ومعاملة فاضلة .
تشعر معهم أن قلبك يخفق بقوَّة ، كقوة الحب في الله التي تجمع هؤلاء الغرباء ، وكأنما أنت بينهم كلبنة بين جنبات بنيان عظيم .
ويعود أحمد إلى منزله قبل صلاة الظهر ليستقبله والده بوابل من السباب ، يوجع القلب ويمض الفؤاد ويعكِّر المزاج ..
أما قلت لك مراراً : لا تمشي مع هؤلاء [ المطاوعة ] !
أما حذرتك منهم ؟ ألم أنهك عنهم ؟
إنَّك تتلذّذ بعنادي ومخالفة أمري ..
يا لك من ولدٍ عاق ! سيئ الأخلاق !
لم تسكن هذه العاصفة الهوجاء من الهجاء إلا على دمعات حزينة تحدَّرت من محجر أحمد كانت كفيلة بإسكات الوالد الهائج كالبحر المائج .
هيَّا .. هيَّا ..
أُغرب عن وجهي .. أذهب من أمامي ، وإلاَّ أوسعتك ضرباً وركلاً بقدمي هذه ..
لملم أحمد حزنه في قلبه ، وكفكف دمعه في عيونه ، ومشى بخطوات ثقيلة نحو فراشه ليرمي بنفسه كالجريح ، ويلتحف بالغطاء ، ليجهش بالبكاء !
ربَّاه .. ربَّاه ..
متى يبزغ النور ؟! متى ينبلج الضياء ؟! متى يأتي الفرج ؟!
بهدايتهم .. أو .. بخروجي عنهم ؟!
يا ربِّ ! ثبتني .. فإني أتزلزل .. أتضعضع .. أتململ !
غدوت كشجرة خضراء تصفعها العاصفة وتلطمها الريح الهوجاء ..
************
البيت له دويٌّ قوي ..
فنغمات المعازف تكاد تدكدكه ..
انسَّل أحمد من حجرته ليخرج إلى مصدر الصوت .
إنَّه خالد !
يتراقص كالحيَّة ، ويتمايل كالثعبان ..
ويله من نفسه !
ألا يدري أن الله يسمعه ؟!
ألا يشعر أن مولاه يراه ؟!
أهكذا تُبدَّل نعمة الله كفراً ؟! وفضله وجوده جحوداً و نكراً ؟!
أهكذا نعصيه بنعمه ؟! ونتمرَّد عليه بفضله ؟!
فماذا نقول له إذا لقيناه ؟ وبأي حجة نعتذر منه إذا رأيناه ؟!
كم نغفل عمَّن لا يغفل !
الصراخ يتعالى .. والنداء يتوالى ..
يا خالد .. يا خالد ..
إنه أبي ينادي أخي !
اخفض صوت هذه الأغنية ، فإني في الحجرة المقابلة أتابع فيلم السهرة ..
لقد أزعجتني بهذا الصوت .. أذهبت متعتي ، وبدَّدت سلوتي ..
والد غافل .. وولد فاشل ..
عاد أحمد بعد أن رأى هذا المشهد ليضطجع على فراشه ..
وضع شريط القرآن في أداة التسجيل ليأتي صوت القارئ العذب كوابل يهمي فيلامس شِغاف القلب المكدود ، أو كديمة حالمة تعانق زهرة باسمة ، فتحت ذراعيها للسماء في صفاء !
كم أنتم ـ يا أهلي ـ في سبات !
والله لو تعلمون ما أنا فيه من السعادة لجالدتموني عليها بالسيوف !
كيف استبدلتم كتاب الله بهذا الغثاء القبيح ؟!
كيف سلوتم عن ذكر الله ، وتسليتم بالغفلة عنه ؟!
أما شعرتم بحرقة الحرمان منه ؟!
كم غرَّتكم أنفسكم ! وغرَّكم بالله الغرور !
***************
غرس أحمد وجهه بين دفتي كتاب نافع يقرأ فيه ، فإذا بصوت والدته يصيح فيه ..
فأجابها على الفور ..
أماه ! ماذا تريدين ؟
أريدك أن تذهب بي إلى السوق .
سمعاً وطاعة ، وحبَّاً وكرامة .. ولكن !
تبعثرت الحروف على شفتيه ، وتناثرت الكلمات في فيه ..
ماذا تريد أن تقول ؟
أماه ! إنه لا يجوز لك أن تخرجي إلى مجامع الناس بهذه العباءات المزركشة ، وهذه العطور الفائحة ، وهذه الأيدي والأرجل المكشوفة ، وهذا النقاب وهذه ...
انفجرت في وجهه كالبركان .. قذفته بالحِمم .. لتنكأ الجراح وتزيد في الألم ..
أيُّها العاصي ! لم يبق في الدنيا إلاَّ أنت ! تأمرني وتنهاني ..
ما هذه المصيبة العجيبة ؟!
من غيرَّ طبعك ؟ من بدَّل حالك ؟
كيف استطاع أن يقذفنا بهذه الداهية ؟ ويسيء إلينا بهذه الإساءة البالغة ؟
لهفي عليك !
استلَّت من معجم الألفاظ القاسية ما يوجع ، غرستها في قلبه كالسهام الجارحة ، ثم ولَّت جامحة ، لتركب مع سائقها لوحدها إلى السوق !
أما أحمد ، فعاد إلى حجرته ، والعود أحمد ..
ضاقت عليه جدرانها ، أطبقت على صدره أركانها ، حبس الهواء في جوفه وكأنما يتنفس في خرم إبرة ..
رفع بصره إلى السماء .. أغمض عينيه .. أحرقته حسرته ، فغلبته عبرته ، وعاد إلى كتابه لينيخ فوق صفحاته ركابه !
*******************
إيقاد شمعة في الظلام خير من لعنه ألف عام ..
فهيَّا .. هيَّا يا أحمد ..أوقد شمعة ضياء بين دياجير الظلام الحالك ..
أخذ كتابه بيده ، وذهب إليهم حيث يجتمعون ..
حسناً ! الجميع هنا .. ولكن حول هذا الشيطان الأكبر !
ينظرون فيه ، ويسمعون منه ، ما ينقص إيمانهم ، ويضعف يقينهم ، ويرجف في قلوبهم ..
نظروا إليه بنظرة واحدة ، ثم التفتوا عنه التفاتة واحدة ..
لم ينهزم ..
هكذا الأنبياء كانوا يفعلون !
صمود في وجه الصدود .. وجلد في مقارعة الجمود ..ومقاومة المقاومة ..
صبرٌ في البداية ، وظفرٌ في النهاية ..
بدأ يقرأ لهم من كتابه .. كلمات معدودة وأسطر محدودة ، فإذا بهم يتبادلون البسمات الساخرة في خلسة ، والغمزات المستهزئة في خفية ..
كتموها ، ثم أبدوها .. فإذا بضحكاتهم تجلجل في أذنيه كصوت الرعد القاصف ، وابتساماتهم تتردد في عينيه كالبرق الخاطف ..
الأم هنا .. والأب هناك ..
أما الأخ والأخت فانقلبا على ظهورهما ضاحكين ..
وبدأ الكلام كالسهام ..
يتندرون به ، ويضحكون عليه ، ويسخرون منه ..
حتى سالت دموعهم على خدودهم من الضحك ..
أما هو فسالت دمعته على صفحة خده من البكاء ..
رآها الجميع .. سقطت من عينيه لتقع عند قدميه ..
وذهب أحمد ، والحزن يعصف به من كل جانب ، والألم يحيط بقلبه من كل صوب
لقد رأى نفسه كالفريسة الضعيفة بين مخالب وأنياب من يمزقها إرباً إرباً ..
ألجمه الموقف بلجام الصمت .. حتى ما عاد يقوى على الكلام ..
وودَّ لو أنه صاح فيهم ؛ يا أهلاه !
أما لهذه الغواية من نهاية ؟!
أما لهذا الضلال من زوال ؟!
إنما هذه الحياة الدنيا متاع ، والآخرة هي دار القرار .
والعمر حلم عابر ، ولا بُدَّ لهذا الليل من آخر !
طوى حزنه بين ضلوعه ، وغمس ألمه في دموعه ، عاد إلى حجرته ، ليخلد إلى وحدته .
***************
انكسر حاجز الصمت بينهم ..
فأصبح الأخوة يستهزئون بأحمد في كل وقت .. على عين الأب وسمع الأم ..
يسألون عن حكم المعازف ، فإذ قال حرام .. رفعوا صوتها عنده .. وانطلقوا في الضحك كالمجانين .
ويسألونه عن حكم مشاهدة المسلسلات .. فينهاهم عنها ويحذرهم منها ..
فإذ ما رأوا فيها موقفاً مشيناً ومنظراً مخزيا .. صاحوا فيه ؛ فما رأيك في هذا ؟! ثم ينطلقون في الضحك ..
فإذا سمع منادي الخير ينادي ؛ حي َّ على الصلاة ..
ناداهم إليها ، ورغبهم فيها ، وهم لا يبالون به ، ولا يلتفتون إليه ، فإذا ما زاد عليهم في الحديث ، سخروا منه ، وأعرضوا عنه ، وقالوا : يكفينا أنت [ يا مطوع !]
الإيمان في القلب ! ونحن قلوبنا نظيفة ! وأنت قلبك مريض ..
يزكون أنفسهم ، وكأنما إيمانهم في قلوبهم كالملائكة ..
ويلمزونه من طرف خفي ، ويطعنون في إخلاصه وصدقه ..
فإذا ما غلبتهم حجته ، قالوا في ثقة : ستعود كما كنت !
ولن تصبر أكثر من هذا ..
لن تقاوم التيار .. و تواجه الإعصار .. وستسقط من عليائك مع تعاقب الليل والنهار ..
فيصيح فيهم ؛ ولو تخطفتني الطير ! ولو مُزقتُ كلَّ ممزَّق ! إن شاء الله .
يصرون على الهلاك .. ويلحُّ على الفكاك ..
فسارت ركائبه ذات اليمين ، وأسرعت كتائبهم ذات الشمال ، فأنَّى يلتقيان ؟!
*********************