اسمي رغد ، و أنا يتيمة الأبوين أعيش في بيت عمّي الوحيد شاكر منذ الطفولة .
أنهيت دراستي الثانوية مؤخرا و أفكر في الالتحاق بكلية للفنون و الرسم . أعشق الرسم كثيرا و أنا ماهرة فيه .
الجميع يعرفني برغد المدللة ، حيث أنني تعودت منذ الصغر الحصول على كل ما أريد ، و بأي طريقة !
اليوم نقيم في منزلنا الصغير حفلة متواضعة بمناسبة تخرجي من المدرسة الثانوية . لم يتسن لنا إقامتها قبل الآن لأن والدتي ـ أي زوجة عمي ـ كانت متوعكة الصحة .
في الواقع ، صحة والدتي ليست على ما يرام منذ سنين ...
دانه تبالغ في وضع المساحيق لتبدو ملفتة للنظر !
رغم أنها لم تكن ترحب بفكرة الحفلة ، إذ أننا لم نقم حفلة عند تخرجها ، ألا أنها مصرة على سرقة الأضواء مني هذه الليلة !
إنها حفلة بسيطة و لا تقتض منك كل هذا ! تبدين كعروس بكامل زينتها !
قلت لها و أنا واقفة أراقبها و هي ( مزروعة ) أمام المرآة منذ ساعات !
لم تلتفت إلي ، و قالت :
ما دمنا قد دعوناهن، فلنبهرهن ! قد تعجب بي إحداهن فتخطبي لأخيها مثلا !
و ابتسمت بدهاء !
أنا أعرف من تقصد تحديدا ... لديها صديقة من عائلة ثرية جدا و شقيقها رجل تحلم نصف فتيات العالم بالزواج منه ، أما النصف الآخر فيبغضه بشدة !
إنه لاعب كرة قدم مشهور و صوره تملأ الصحف و المجلات و برامج التلفاز أيضا!
قلت :
لا أعرف ما الذي يعجبكن في شخصية كهذه ! إنه حتى لا يتوقف عن توزيع الضحك و الابتسامات و كأنه مهرج !
نظرت إلي بحدة من خلال المرآة ، ثم قالت :
على كل ٍ ، الأمر لا يعنيك فأنت أخذت نصيبك و انتهى دورك !
ثم انشغلت بتزيين خصلة من شعرها بسائل ملمّع ...
صرفت نظري عنها ، إلى يدي اليمنى ، بالتحديد إلى إصبعي البنصر ، و بمعنى أدق ، إلى خاتم الخطوبة الذي أضعه منذ سنين ...
بمجرد أن بلغت الرابعة عشر من عمري أي قبل ثلاث سنوات و أكثر ، تم عقد قراني على ابن عمي سامر ...
و بقينا مخطوبين حتى إشعار آخر .
سامر ... يكبرني بخمس سنوات تقريبا ، و ما أن تخرج من الثانوية حتى بادر بطلب الزواج مني
والدي ، بل و والدتي و دانة أيضا ... الجميع كان يريد ذلك ، فأنا أصبحت فتاة بالغة و لم يكن من الممكن بقائي و ابن عمي في بيت واحد دون حرج على كلينا
عدا عن ذلك ، فإن سامر يحبني بجنون !
كما و أنني كنت السبب في الحادث الذي شوه وجهه ، و قلل فرصه لنيل إعجاب الفتيات قطعا
أما أنا ، و بالرغم من كوني جميلة أيضا ، ألا أن هذا الخاتم يصرف الجميع عن الالتفات إلي ...
على أية حال نحن لا نفكر في الزواج الآن فسامر لا يزال يبحث عن وظيفة
و أنا أطمح إلى الحصول على شهادة جامعية ...
نبهتني دانة من شرودي الذي لاحظته من خلال انقطاعي عن التعليق المستمر على مظهرها
قالت :
أين سرحت ؟ ألن تبدلي ملابسك ؟ إنهن على وشك الوصول !
غادرت غرفتها و اتجهت إلى غرفتي ، حيث ارتديت فستاني الجديد الرائع ... و الذي أضطر والدي لشرائه لي رغم ارتفاع ثمنه ، فقط لأنني قلت : أريده لي !
في غرفة الضيوف حيث نقيم الحفلة ، وجدت نهلة و سارة ، ابنتا خالتي قد وصلتا و كانتا أول من حضر .
واو ! فستان رائع ! ما أجمله يا رغد !
قالت نهلة و هي تبعد يدها بعد مصافحتي ...
نهلة كانت صديقة طفولتي الأولى ، و انتقلت مع عائلتها للعيش في هذه المدينة مثلنا أيضا منذ سنين ، و لا تزال أفضل صديقة لدي .
أما سارة فهي الشقيقة الوحيدة لنهلة ، و تصغرني بست سنوات ، و تلازم نهلة كالظل !
هل أعجبك حقا ؟ اشتراه والدي بسعر مرتفع ! إنني أعامله كأي قطعة من حليي هذه !
ابتسمت نهلة و قالت :
كم أحسدك ! لديك أب يدللك كما لا يدلل والد ابنته ! رغم أنك لست ابنته الحقيقية !
هذه الكلمة تزعجني كثيرا ، فأنا لا أحب أن يشير أحد إلى والدي ّ بأنهما ليسا والدي ّ الحقيقيين . إنني اعتبرتهما كذلك منذ الصغر و لا أعرف والدين غيرهما مطلقا .
قلت بنبرة مازحة :
لأنني البنت الصغرى ، و آخر العنقود ... يجب أن أتدلل !
ثم نظرت إلى سارة و قلت :
أليس كذلك سارة ؟
أجابت ببرود :
كما تقول أختي
رفعت نظري عن هذه الفتاة البليدة ، و عدت أخاطب نهلة :
و كيف حال خالتي و زوج خالتي ؟ و حسام ؟
أجابت :
بخير جميعا ! حسام أوصلنا إلى هنا و أظنه يلقي التحية على والدك الآن
ثم أضافت ، و هي تنظر إلي من زاوية عينها بخبث :
و على فكرة ، هو يبعث إليك أيضا بتحية حارة مشتعلة !!
ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟
حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز
قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...
و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !
قلت :
عدا عن كسر بسيط في الأنف !
و ضحكنا !
قلت :
فعلها والدك ؟
ابتسم و قال مداعبا :
والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟
بعشر سنين من عمري أهديها لك !
ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
الطريق ...
الشارع ...
الأشجار
كل شيء يتحرك ...
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...
8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...
وصلنا ! انهض عزيزي
لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، ألا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...
وصلنا ! إلى أين ؟
قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...
قال سيف :
إنه منزلي يا وليد
حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :
خذني إلى منزلي رجاءا !
سيف علاه شيء من الحزن و قال :
كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا
قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !
أنا آسف ! إنني جائع جدا !
قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، ألا أن سيف ضحك و قال :
هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية
رفعت بصري إليه و قلت :
لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... !
هز سيف رأسه و قال :
انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله
هل انتهى حقا ... ؟؟
رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...
رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
سمعت صوت نديم يناديني ...
انهض يا وليد ، جاء دورك
كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...