فارس
Ω وما توفيقي إلا بالله Ω
- التسجيل
- 10 نوفمبر 2008
- رقم العضوية
- 9781
- المشاركات
- 2,399
- مستوى التفاعل
- 1,838
- الجنس
- الإقامة
- الإمارات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخذت منظاراً ووضعته على عيني ومشيت به على مدارج شارعٍ عرفته وألفته ، فإذا الناس غير الناس
والمدينة غير المدينة ، والدنيا غير الدنيا !
كأنما هذا المنظار من صنع الله الذي أتقن كل شيء ! فإن فيه أسرار المناظير المقربة والكاشفة
وفيه غير ذلك قوةُ التجريد ، فهو يرد كل شيء إلى طبيعته ، ويظهر كل شيء على حقيقته .
مشيت به في زحمة الطريق مشية الغريب في البلد المجهول ، تزخر نفسه بعواطف شتى من الغضب والعجب
والإنكار والدهشة ، ثم لا يملك أن يسأل لأن لسانه معقود ، ولا يستطيع أن يصبر لأن جَلَده مفقود .
يا الله ! ما هذا الذي أراه ؟! أهذا هو الصاحب الذي أخلصته الوفاء ، وبادلته الود ، وصادقته عمري كله
ثم لا ألقاه إلا وحيّاني باليد الناعمة ، وحدثني باللسان المعسول ؟ ما باله بعد ما وقع عنه قناعه الوردي
وسقطت عنه أصباغه المزيفة ، فبدا أمامي ضارياً كالذئب الجائع ، تتقد عيناه بالسوء ، ويتحلّب شدقاهُ بالشر
وفي شريعة الذئاب لا تتصافح اليدان ما دامت بينهما فريسة ..
ولكن ابن آدم وحده هو الذي يستطيع أن يُسلِّم بيد ويبطش بيد !
أهذا هو الصاحب المستقيم الذي عرفته عنوانَ الفضيلة ومثال الورع ولسان المعروف ؟!
مالي أراه اليوم تهتّكت الأسرار عن تنكره البارع ، فلحيته المستعارة تكاد تسقط ، وزهادته الكاذبة تهمُّ أن تفترس
وحلته الدينية تشف عن جسد دنيوى تلهبه الشهوة المسعورة ، والرغبة الملحة
يود لو تنقلب المواعظ والآيات في فمه رُقىً سحريةً ينال بها عَرَض الدنيا وعزة الجاه ؟
أهذا هو العظيم المتأبِّه الذي أشاهده من حين إلى حين يمشي وأنفه في السماء ، وصدره يكاد أن ينشق من نفخة الكبرياء
ونظراته يوزعها على من حوله استكباراً وتسلط . إني لأراه من خلف هذا المظهر المونِق والرّواء الخلاب جثةً خبيثة الريح
يلتف جلدها الرقيق الشاحب على ضمير مُثقل بالخزى . ونفسٍ مطمئنة إلى الهُون
وكأني أنظر إلى بقايا الإنسانية فيه تخزه في مواطن الحس منه بكلامٍ معناه :
يا عز ما بينك وبين الناس ، وياذل ما بينك وبين نفسك !
وما حال هذه الجمع الذي يلتف كل ليلة حول مجلس طعام أو سامر أُنس ، فيتنادمون بطرائف الأدب وروائع الحديث
ومداعبات الصداقة ! لقد كنت أحسبهم جميعاً ، فأصبحوا في هذا المنظار شتى !
إنهم لا يتظاهرون بالود إلا في مجالس اللهو ؛ فإذا تفرقوا تناكروا
وبسط كل منهم لسانه في الآخرين بالذم ؛ ودرج بعضهم في بعضٍ بالوقيعة .
أعوذ بالحليم الستار 1 ، من شر هذا المنظار ! لقد شَوّه في عيني جمالَ الوجوه .
لا مِراء في أن رونق الدنيا خدّاع ، وسعادة العيش وهم 2 ، وحياة بعض الناس تمثيل .
فإذا أزلتَ عن العيون غشاوة الإبهام فرأت كل شيء على طبيعته ، وكل شخص على حقيقته ، لا يبقى لجميلٍ سِحر
ولا لعجيبٍ سر ، ثم لا يكون بين أحد وأحد ألفة ، ولا بين جماعة وجماعة محبة .
لكن لا يزال في الناس بقية خير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأصل أن يقال الستير كما جاء في الحديث ( إن الله حيي ستير )
2 ـ المقصود هنا : سعادة المظاهر المزيفة ، وإلا فالسعادة الحقيقية ثابتة لمن عمل بمقتضاها .
2 ـ المقصود هنا : سعادة المظاهر المزيفة ، وإلا فالسعادة الحقيقية ثابتة لمن عمل بمقتضاها .