ولـد الشـيخ
๑ . . عضو ماسي . . ๑
حين يصبح مصير العالم ضحية الأعيب المخابرات!
فضيحتان كبيرتان للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية أدتا إلى كارثتين مروعتين في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. الفضيحة الأولى: وهي إسرائيلية كشف النقاب عنها قبل أيام قلائل حيث تبين أن الجنرال عاموس جلعاد رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قد قام بتضليل القيادة السياسية في إسرائيل قبيل نهاية حكم ايهود باراك خلال مفاوضات كامب ديفيد ومفاوضات طابا التي تلتها بادعاء أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لا ينوي التوصل إلى سلام مع إسرائيل وأنه يسعى إلى تدمير إسرائيل عبر «وسائل ديموجرافية«. وان ما قام به عرفات هو أنه خدع الإسرائيليين"بالتظاهر" باستعداده للتفاوض.
وقد أدت هذه التقديرات إلى تخريب مفاوضات التسوية، حيث اتجه باراك إلى التشدد في المفاوضات وشن هجوما ضاريا ضد عرفات واتهمه بأنه لا يريد تحقيق السلام، واعقب ذلك اندلاع الانتفاضة التي ركب موجتها شارون ليصل إلى الحكم، رافعاً شعار «القبضة الحديدية« في التعامل مع الفلسطينيين، ومدعياً انه لا يوجد شريك من الجانب الفلسطيني لإبرام سلام مع إسرائيل. والفضيحة الثانية: هي فضيحة أمريكية، قادت في النهاية إلى استقالة رئيس المخابرات المركزية الأمريكية جورج تينت مؤخرا، وهي الفضيحة الخاصة بالأكاذيب التي روجتها إدارة بوش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وادعاء أن العراق (تحت الحصار) قد استأنف برامج تسلحه الكيماوية والنووية، وتقول المصادر الأمريكية، إن تينت قد أكد لبوش أكثر من مرة أن حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل هي أمر مؤكد حتى انه قد استخدم في ذلك تعبيرا يستخدم في لعبة كرة السلة وهو "أن" مسألة حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل العراقية« هي "ضربة مضمونة". ومعروف، ان المخابرات الأمريكية هي التي قدمت الوثائق الخاصة بالملف الذي عرضه الجنرال كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في مجلس الأمن، وزعم فيه امتلاك أدلة وبراهين لا يخامرها الشك عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وبعد شن الحرب ضد العراق واحتلال أراضيه وتفتيش كافة المواقع المحتملة وغير المحتملة لوجود مثل هذه الأسلحة، وثبوت عدم امتلاك العراق لهذه الأسلحة، خرج كولن باول ليعلن انه تعرض لعملية تضليل من المخابرات بشأن تلك الأسلحة، وأنه نادم على ذلك. وكان تصريح باول بمثابة اتهام واضح لجهاز المخابرات الأمريكية، ربما لعب دوراً أساسيا في تسريع استقالة تينت، هذا بالإضافة طبعا إلى تداعيات فضائح التعذيب في سجن أبوغريب، والتي اتهم فيها ضباط مخابرات باللجوء إلى أساليب تعذيب سادية وقاسية ضد المعتقلين العراقيين. في الحالتين، وكما نرى ونتيجة التضليل الاستخباراتي المتعمد لصانعي القرار تم تقويض اكبر فرصة لابرام تسوية بين الفلسطينيين واسرائيل في نهاية عهد الرئيس كلينتون، وعلى الجانب الآخر، أصرت إدارة بوش على شن الحرب ضد العراق، رغم عدم موافقة مجلس الأمن على ذلك، ورغم تأكيدات المفتشين الدوليين ولاسيما هانز بليكس والبرادعي على أنه لا توجد أي دلائل على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أو انه استأنف برامجه التسليحية في المجالات الكيماوية أو البيولوجية أو النووية. ومن هنا، يمكن القول إن التضليل المعلوماتي الاستخباراتي قد لعب دوراً محوريا في إشعال حربين مدمرتين في هذه المنطقة خلال بضع سنوات فقط. الحرب الأولى هي الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ اندلاع الانتفاضة والتي استخدمت فيها إسرائيل بزعامة شارون أعتى أنواع الأسلحة بهدف قمع الفلسطينيين واخضاعهم، بل قامت إسرائيل بإعادة احتلال المدن الفلسطينية تحت فوبيا الرعب من مخطط وهمي لعرفات هدفه تدمير إسرائيل. والحرب الثانية، هي الحرب التي شنتها أمريكا ضد العراق، صحيح أن مخططات إدارة بوش لمهاجمة العراق كانت واضحة منذ اليوم الأول لتولي هذه الإدارة الحكم وحتى قبل حدوث احداث 11 سبتمبر، والتي سعى من خلالها اركان المحافظين الجدد في البنتاجون الى محاولة ربط العراق بتفجيرات 11 سبتمبر عبر ذرائع مفبركة ومختلقة ووهمية، بهدف إيجاد ذريعة لشن الحرب ضد العراق، وكانت الحجة التي استعملت هنا هي: بما ان لدى العراق أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية وربما نووية، فليس من المستبعد أن يقوم صدام حسين بتزويد عناصر بن لادن في تنظيم القاعدة بهذه الأسلحة ليهاجموا بها الأهداف الأمريكية سواء داخل أمريكا أم خارجها. وبما ان إدارة بوش تبنت مذهب «الحروب الاستباقية« فكان الاتجاه هو لضرب العراق وتدمير أسلحته الخطيرة المزعومة قبل أن يزود بها «الجماعات الإرهابية«. صحيح أن هذه الأكاذيب والمزاعم عمل على الترويج لها أنصار إسرائيل من المحافظين الجدد وخاصة داخل البنتاجون من أمثال وولفوويتز ودوجلاس فايث وريتشارد بيرل، والذين انشأوا أجهزة جمع معلومات استخباراتية خاصة داخل البنتاجون موازية للمخابرات الأمريكية، بهدف تأكيد هذه الادعاءات عبر معلومات مفبركة، وذلك في إطار سعيهم المحموم لإقناع بوش بشن الحرب ضد العراق. لكن المؤكد أن جهاز تينت في المخابرات المركزية قد ارتكب خطأ جسيما عندما ساير فريق المحافظين الجدد في البنتاجون في مسألة المزاعم حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. والمفروض في مثل هذه الحالات، أن فريق تينت لجمع المعلومات هو فريق محترف وليس «مؤدلجاً« كما هو الحال في فريق المحافظين الجدد داخل البنتاجون، وحينما يقدم معلومات للرئيس فهو يقدمها بناء على معلومات موثقة وشبه مؤكدة، وليست مبنية على تصورات أو تخيلات أو تقديرات أو مسايرات لاتجاهات سياسية معينة سائدة داخل إدارة بوش.
ويرى الخبراء الأمريكيون أن مشكلة تينت أنه كان يحاول اضاء رؤسائه بأي وسيلة، وكانت تلك نقطة ضعفه الرئيسية، إذ أنه بدلا من أن يقدم المعلومات الحقيقية والفعلية عن حقيقة أسلحة الدمار الشامل العراقية، لاحظ وجود تيار قوي يقوده نائب الرئيس الأمريكي تشيني ورامسفيلد وعناصر المحافظين الجدد داخل البنتاجون كلهم يروجون لأكذوبة ما يمتلكه العراق من أسلحة دمار شامل، وبدلا من أن يقدم تقديرات ومعلومات حقيقية ضد هذا التيار الذي يريد شن الحرب بأي وسيلة، سار في ركابهم وقام بالبحث عن "أدلة مفبركة" لتأكيد المزاعم عن أسلحة الدمار الشامل العراقية فضلل بها كلا من بوش وباول وقادت تاليا إلى حرب مدمرة، وورطة سياسية أمريكية في المستنقع العراقي أعادت إلى الأذهان ورطة فيتنام. صحيح أن قرار الحرب ضد العراق كان مرجحا حتى بدون تأكيدات المخابرات المركزية عن وجود أدلة تؤكد امتلاك العراق للأسلحة المحظورة المزعومة، وذلك في ظل حسابات استراتيجية أخرى كانت ترجح شن الحرب ضد العراق مثل النفط، والرغبة الجامحة لبوش في اسقاط صدام، فضلا عن تحقيق أهداف إسرائيل من الحرب بالقضاء على «شبح التهديد العراقي«. لكن من المؤكد لو أن المخابرات المركزية بقيادة تينت قدمت معلومات غير مضللة للقيادة السياسية، لربما اختلف الحال بشأن الحسابات الخاصة باتخاذ قرار الحرب. إن خطورة تقارير المخابرات هي انها تعد المصدر الأساسي الذي يستند عليها صانع القرار في تحديد مواقفه وقراراته تجاه القضايا المختلفة، وخاصة في البلدان التي يشكل الهاجس الأمني محورا أساسيا في توجهات الدولة، كما هو الحال في إسرائيل وأمريكا. ولا يخفى مثلا ان بوش قد اعترف أكثر من مرة انه يعتمد على تقارير المخابرات بصورة أساسية في شأن ما يتخذه من قرارات سياسية. وقد لوحظ أن بوش كان يلتقي تينت يوميا في كل صباح على مدى ستة أيام في الأسبوع ليستمع منه إلى تقييم المخابرات للقضايا السياسية المختلفة، وغالبا ما يحدد التقرير اليومي لتينت اتجاهات بوش السياسية بشأن القضايا المختلفة، وهو ما يؤكد المخاطر الحقيقية للتضليل المعلوماتي الذي يمكن أن تقوم المخابرات في توجيه وصنع القرارات السياسية الخطيرة، وهل هناك اخطر من قرار شن الحرب ضد بلد آخر، ثم يتبين لاحقا ان الادعاءات الخاصة بالحرب كانت كاذبة (كما في حال العراق). وفي إسرائيل، معروف أن المؤسسة العسكرية وقيادة أركان الجيش الإسرائيلي هي التي تتخذ عمليا القرارات الاستراتيجية الكبرى وخاصة فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلام. لهذا كان تقرير الجنرال جلعاد بشأن توجهات عرفات بشأن التسوية كارثة حقيقية أدت إلى إهدار فرصة للتسوية وقادت تاليا إلى تعقيد الموقف السياسي والاستراتيجي للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقد تبين لاحقا أن المواقف المسبقة للجنرال جلعاد من عرفات كانت هي السبب وراء تقديراته السيئة تجاه عرفات والتي أدت إلى انهيار مفاوضات التسوية على المسار الفلسطيني. فقد عرف عن جلعاد مناصبته الحقد والعداء للرئيس الفلسطيني واتهامه عرفات بالسعي للقضاء على إسرائيل، وقد كشف جلعاد في حديث لصحيفة «معاريف« الإسرائيلية عن هذا التوجه بقوله:"إن موقفي من عرفات معروف، فهو يريد إبادتنا كدولة يهودية، هذا قراره الاستراتيجي، ومادام عرفات يقرر هذا فليس هناك أمل لتحقيق شيء"«. وقد أوصى جلعاد دوماً بالتخلص من عرفات، وقادت توجهاته إلى تبني شارون لسياسة عزل عرفات وإبعاده عن العمل السياسي، ونجح تاليا في اقناع إدارة بوش بذلك فاتخذت قراراتها الرامية إلى تقليص صلاحيات عرفات واضعاف تأثيره على القرارات الأمنية والتفاوضية والاستراتيجية الفلسطينية، وجاء في سياق ذلك المطالبة باستحداث منصب رئيس وزراء فلسطيني ذي صلاحيات واسعة تكون بديلة لسلطة عرفات. ولا شك ان تهميش عرفات بناء على توصيات جلعاد، كان قراراً إسرائيليا استراتيجيا خاطئا، لأنه قضى عمليا على أي فرصة حقيقية لإبرام تسوية مع الفلسطينيين، لأن عرفات هو القائد الفلسطيني الوحيد الذي يتمتع بشعبية تجعله قادرا على إقناع الشعب الفلسطيني بأي اتفاق للتسوية، وهكذا فقد أضاعت إسرائيل فرصة مواتية للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. ومن هنا، تتبدى لنا خطورة أن يصبح مصير أمة وشعوب بأيدي أفراد قلائل من المؤدلجين في أجهزة المخابرات، والكارثة أن هذا الذي حدث وقع في بلاد تدعي أن لديها نظما ديمقراطية تمتلك آليات مراقبة وتدقيق ومراجعة لعمل أجهزة المخابرات، لكن هذه الآليات والديمقراطية فشلت في الحالتين دون صعود وجهات نظر متطرفة أدت إلى اتخاذ مواقف سياسية أكثر تطرفا قادت إلى حروب وكوارث إنسانية وحضارية أضرت ضررا بالغاً بالاستقرار الدولي وهددت الأمن العالمي بما فجرته من أجواء توتر وصراع إقليمي ودولي وأزمات سياسية مازالت محتدمة حتى يومنا هذا. إن خطورة تقارير المخابرات انه ينظر إليها على أنها «التحليل الأكثر دقة ومصداقية، والذي يمتلك معلومات موثقة ومؤكدة غير قابلة للنقض«، ولهذا عندما يعتمد عليها صانع القرار في اتخاذ قراراته، فإنه يعتقد أنه تحرى أقصى درجات الدقة والموضوعية، ولكن ثبت الآن أن ذلك ليس صحيحا وليس دقيقاً، وأنه رغم التقدم النوعي في جمع المعلومات في عصر الأقمار الصناعية ومراقبة الاتصالات الدولية والوسائل المتقدمة لجمع المعلومات، فإن تقارير المخابرات ذاتها يجب أن تخضع لقراءات وتمحيصات وتحليلات أخرى للتأكد من مدى دقتها وصحة معلوماتها قبل اتخاذ القرارات الإستراتيجية، حتى لا تتسبب في وقوع كوارث سياسية جديدة كالتي وقعت في العراق وفلسطين. ولا شك أن مثل هذا يتطلب مواهب خاصة لدى القيادات السياسية التي تُرفع لها تقارير المخابرات، فتقوم القيادة السياسية ذاتها بإعمال خيالها السياسي والاعتماد على خبراء مستقلين لقراءة الموقف بهدف التوصل إلى الرؤية الأكثر دقة في التعامل مع المواقف والأزمات السياسية المختلفة. إن فضائح المخابرات الأمريكية والإسرائيلية تدق ناقوس الخطر من العواقب الوخيمة لأدلجة أجهزة المخابرات ومخاطر الاعتماد على التقديرات الشخصية بدلاً من المعلومات الموثوقة في اتخاذ القرارات الهامة والمصيرية في الأزمات الدولية الكبرى.
منقولة
فضيحتان كبيرتان للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية أدتا إلى كارثتين مروعتين في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. الفضيحة الأولى: وهي إسرائيلية كشف النقاب عنها قبل أيام قلائل حيث تبين أن الجنرال عاموس جلعاد رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قد قام بتضليل القيادة السياسية في إسرائيل قبيل نهاية حكم ايهود باراك خلال مفاوضات كامب ديفيد ومفاوضات طابا التي تلتها بادعاء أن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لا ينوي التوصل إلى سلام مع إسرائيل وأنه يسعى إلى تدمير إسرائيل عبر «وسائل ديموجرافية«. وان ما قام به عرفات هو أنه خدع الإسرائيليين"بالتظاهر" باستعداده للتفاوض.
وقد أدت هذه التقديرات إلى تخريب مفاوضات التسوية، حيث اتجه باراك إلى التشدد في المفاوضات وشن هجوما ضاريا ضد عرفات واتهمه بأنه لا يريد تحقيق السلام، واعقب ذلك اندلاع الانتفاضة التي ركب موجتها شارون ليصل إلى الحكم، رافعاً شعار «القبضة الحديدية« في التعامل مع الفلسطينيين، ومدعياً انه لا يوجد شريك من الجانب الفلسطيني لإبرام سلام مع إسرائيل. والفضيحة الثانية: هي فضيحة أمريكية، قادت في النهاية إلى استقالة رئيس المخابرات المركزية الأمريكية جورج تينت مؤخرا، وهي الفضيحة الخاصة بالأكاذيب التي روجتها إدارة بوش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وادعاء أن العراق (تحت الحصار) قد استأنف برامج تسلحه الكيماوية والنووية، وتقول المصادر الأمريكية، إن تينت قد أكد لبوش أكثر من مرة أن حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل هي أمر مؤكد حتى انه قد استخدم في ذلك تعبيرا يستخدم في لعبة كرة السلة وهو "أن" مسألة حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل العراقية« هي "ضربة مضمونة". ومعروف، ان المخابرات الأمريكية هي التي قدمت الوثائق الخاصة بالملف الذي عرضه الجنرال كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في مجلس الأمن، وزعم فيه امتلاك أدلة وبراهين لا يخامرها الشك عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. وبعد شن الحرب ضد العراق واحتلال أراضيه وتفتيش كافة المواقع المحتملة وغير المحتملة لوجود مثل هذه الأسلحة، وثبوت عدم امتلاك العراق لهذه الأسلحة، خرج كولن باول ليعلن انه تعرض لعملية تضليل من المخابرات بشأن تلك الأسلحة، وأنه نادم على ذلك. وكان تصريح باول بمثابة اتهام واضح لجهاز المخابرات الأمريكية، ربما لعب دوراً أساسيا في تسريع استقالة تينت، هذا بالإضافة طبعا إلى تداعيات فضائح التعذيب في سجن أبوغريب، والتي اتهم فيها ضباط مخابرات باللجوء إلى أساليب تعذيب سادية وقاسية ضد المعتقلين العراقيين. في الحالتين، وكما نرى ونتيجة التضليل الاستخباراتي المتعمد لصانعي القرار تم تقويض اكبر فرصة لابرام تسوية بين الفلسطينيين واسرائيل في نهاية عهد الرئيس كلينتون، وعلى الجانب الآخر، أصرت إدارة بوش على شن الحرب ضد العراق، رغم عدم موافقة مجلس الأمن على ذلك، ورغم تأكيدات المفتشين الدوليين ولاسيما هانز بليكس والبرادعي على أنه لا توجد أي دلائل على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل أو انه استأنف برامجه التسليحية في المجالات الكيماوية أو البيولوجية أو النووية. ومن هنا، يمكن القول إن التضليل المعلوماتي الاستخباراتي قد لعب دوراً محوريا في إشعال حربين مدمرتين في هذه المنطقة خلال بضع سنوات فقط. الحرب الأولى هي الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين منذ اندلاع الانتفاضة والتي استخدمت فيها إسرائيل بزعامة شارون أعتى أنواع الأسلحة بهدف قمع الفلسطينيين واخضاعهم، بل قامت إسرائيل بإعادة احتلال المدن الفلسطينية تحت فوبيا الرعب من مخطط وهمي لعرفات هدفه تدمير إسرائيل. والحرب الثانية، هي الحرب التي شنتها أمريكا ضد العراق، صحيح أن مخططات إدارة بوش لمهاجمة العراق كانت واضحة منذ اليوم الأول لتولي هذه الإدارة الحكم وحتى قبل حدوث احداث 11 سبتمبر، والتي سعى من خلالها اركان المحافظين الجدد في البنتاجون الى محاولة ربط العراق بتفجيرات 11 سبتمبر عبر ذرائع مفبركة ومختلقة ووهمية، بهدف إيجاد ذريعة لشن الحرب ضد العراق، وكانت الحجة التي استعملت هنا هي: بما ان لدى العراق أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية وربما نووية، فليس من المستبعد أن يقوم صدام حسين بتزويد عناصر بن لادن في تنظيم القاعدة بهذه الأسلحة ليهاجموا بها الأهداف الأمريكية سواء داخل أمريكا أم خارجها. وبما ان إدارة بوش تبنت مذهب «الحروب الاستباقية« فكان الاتجاه هو لضرب العراق وتدمير أسلحته الخطيرة المزعومة قبل أن يزود بها «الجماعات الإرهابية«. صحيح أن هذه الأكاذيب والمزاعم عمل على الترويج لها أنصار إسرائيل من المحافظين الجدد وخاصة داخل البنتاجون من أمثال وولفوويتز ودوجلاس فايث وريتشارد بيرل، والذين انشأوا أجهزة جمع معلومات استخباراتية خاصة داخل البنتاجون موازية للمخابرات الأمريكية، بهدف تأكيد هذه الادعاءات عبر معلومات مفبركة، وذلك في إطار سعيهم المحموم لإقناع بوش بشن الحرب ضد العراق. لكن المؤكد أن جهاز تينت في المخابرات المركزية قد ارتكب خطأ جسيما عندما ساير فريق المحافظين الجدد في البنتاجون في مسألة المزاعم حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. والمفروض في مثل هذه الحالات، أن فريق تينت لجمع المعلومات هو فريق محترف وليس «مؤدلجاً« كما هو الحال في فريق المحافظين الجدد داخل البنتاجون، وحينما يقدم معلومات للرئيس فهو يقدمها بناء على معلومات موثقة وشبه مؤكدة، وليست مبنية على تصورات أو تخيلات أو تقديرات أو مسايرات لاتجاهات سياسية معينة سائدة داخل إدارة بوش.
ويرى الخبراء الأمريكيون أن مشكلة تينت أنه كان يحاول اضاء رؤسائه بأي وسيلة، وكانت تلك نقطة ضعفه الرئيسية، إذ أنه بدلا من أن يقدم المعلومات الحقيقية والفعلية عن حقيقة أسلحة الدمار الشامل العراقية، لاحظ وجود تيار قوي يقوده نائب الرئيس الأمريكي تشيني ورامسفيلد وعناصر المحافظين الجدد داخل البنتاجون كلهم يروجون لأكذوبة ما يمتلكه العراق من أسلحة دمار شامل، وبدلا من أن يقدم تقديرات ومعلومات حقيقية ضد هذا التيار الذي يريد شن الحرب بأي وسيلة، سار في ركابهم وقام بالبحث عن "أدلة مفبركة" لتأكيد المزاعم عن أسلحة الدمار الشامل العراقية فضلل بها كلا من بوش وباول وقادت تاليا إلى حرب مدمرة، وورطة سياسية أمريكية في المستنقع العراقي أعادت إلى الأذهان ورطة فيتنام. صحيح أن قرار الحرب ضد العراق كان مرجحا حتى بدون تأكيدات المخابرات المركزية عن وجود أدلة تؤكد امتلاك العراق للأسلحة المحظورة المزعومة، وذلك في ظل حسابات استراتيجية أخرى كانت ترجح شن الحرب ضد العراق مثل النفط، والرغبة الجامحة لبوش في اسقاط صدام، فضلا عن تحقيق أهداف إسرائيل من الحرب بالقضاء على «شبح التهديد العراقي«. لكن من المؤكد لو أن المخابرات المركزية بقيادة تينت قدمت معلومات غير مضللة للقيادة السياسية، لربما اختلف الحال بشأن الحسابات الخاصة باتخاذ قرار الحرب. إن خطورة تقارير المخابرات هي انها تعد المصدر الأساسي الذي يستند عليها صانع القرار في تحديد مواقفه وقراراته تجاه القضايا المختلفة، وخاصة في البلدان التي يشكل الهاجس الأمني محورا أساسيا في توجهات الدولة، كما هو الحال في إسرائيل وأمريكا. ولا يخفى مثلا ان بوش قد اعترف أكثر من مرة انه يعتمد على تقارير المخابرات بصورة أساسية في شأن ما يتخذه من قرارات سياسية. وقد لوحظ أن بوش كان يلتقي تينت يوميا في كل صباح على مدى ستة أيام في الأسبوع ليستمع منه إلى تقييم المخابرات للقضايا السياسية المختلفة، وغالبا ما يحدد التقرير اليومي لتينت اتجاهات بوش السياسية بشأن القضايا المختلفة، وهو ما يؤكد المخاطر الحقيقية للتضليل المعلوماتي الذي يمكن أن تقوم المخابرات في توجيه وصنع القرارات السياسية الخطيرة، وهل هناك اخطر من قرار شن الحرب ضد بلد آخر، ثم يتبين لاحقا ان الادعاءات الخاصة بالحرب كانت كاذبة (كما في حال العراق). وفي إسرائيل، معروف أن المؤسسة العسكرية وقيادة أركان الجيش الإسرائيلي هي التي تتخذ عمليا القرارات الاستراتيجية الكبرى وخاصة فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلام. لهذا كان تقرير الجنرال جلعاد بشأن توجهات عرفات بشأن التسوية كارثة حقيقية أدت إلى إهدار فرصة للتسوية وقادت تاليا إلى تعقيد الموقف السياسي والاستراتيجي للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقد تبين لاحقا أن المواقف المسبقة للجنرال جلعاد من عرفات كانت هي السبب وراء تقديراته السيئة تجاه عرفات والتي أدت إلى انهيار مفاوضات التسوية على المسار الفلسطيني. فقد عرف عن جلعاد مناصبته الحقد والعداء للرئيس الفلسطيني واتهامه عرفات بالسعي للقضاء على إسرائيل، وقد كشف جلعاد في حديث لصحيفة «معاريف« الإسرائيلية عن هذا التوجه بقوله:"إن موقفي من عرفات معروف، فهو يريد إبادتنا كدولة يهودية، هذا قراره الاستراتيجي، ومادام عرفات يقرر هذا فليس هناك أمل لتحقيق شيء"«. وقد أوصى جلعاد دوماً بالتخلص من عرفات، وقادت توجهاته إلى تبني شارون لسياسة عزل عرفات وإبعاده عن العمل السياسي، ونجح تاليا في اقناع إدارة بوش بذلك فاتخذت قراراتها الرامية إلى تقليص صلاحيات عرفات واضعاف تأثيره على القرارات الأمنية والتفاوضية والاستراتيجية الفلسطينية، وجاء في سياق ذلك المطالبة باستحداث منصب رئيس وزراء فلسطيني ذي صلاحيات واسعة تكون بديلة لسلطة عرفات. ولا شك ان تهميش عرفات بناء على توصيات جلعاد، كان قراراً إسرائيليا استراتيجيا خاطئا، لأنه قضى عمليا على أي فرصة حقيقية لإبرام تسوية مع الفلسطينيين، لأن عرفات هو القائد الفلسطيني الوحيد الذي يتمتع بشعبية تجعله قادرا على إقناع الشعب الفلسطيني بأي اتفاق للتسوية، وهكذا فقد أضاعت إسرائيل فرصة مواتية للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. ومن هنا، تتبدى لنا خطورة أن يصبح مصير أمة وشعوب بأيدي أفراد قلائل من المؤدلجين في أجهزة المخابرات، والكارثة أن هذا الذي حدث وقع في بلاد تدعي أن لديها نظما ديمقراطية تمتلك آليات مراقبة وتدقيق ومراجعة لعمل أجهزة المخابرات، لكن هذه الآليات والديمقراطية فشلت في الحالتين دون صعود وجهات نظر متطرفة أدت إلى اتخاذ مواقف سياسية أكثر تطرفا قادت إلى حروب وكوارث إنسانية وحضارية أضرت ضررا بالغاً بالاستقرار الدولي وهددت الأمن العالمي بما فجرته من أجواء توتر وصراع إقليمي ودولي وأزمات سياسية مازالت محتدمة حتى يومنا هذا. إن خطورة تقارير المخابرات انه ينظر إليها على أنها «التحليل الأكثر دقة ومصداقية، والذي يمتلك معلومات موثقة ومؤكدة غير قابلة للنقض«، ولهذا عندما يعتمد عليها صانع القرار في اتخاذ قراراته، فإنه يعتقد أنه تحرى أقصى درجات الدقة والموضوعية، ولكن ثبت الآن أن ذلك ليس صحيحا وليس دقيقاً، وأنه رغم التقدم النوعي في جمع المعلومات في عصر الأقمار الصناعية ومراقبة الاتصالات الدولية والوسائل المتقدمة لجمع المعلومات، فإن تقارير المخابرات ذاتها يجب أن تخضع لقراءات وتمحيصات وتحليلات أخرى للتأكد من مدى دقتها وصحة معلوماتها قبل اتخاذ القرارات الإستراتيجية، حتى لا تتسبب في وقوع كوارث سياسية جديدة كالتي وقعت في العراق وفلسطين. ولا شك أن مثل هذا يتطلب مواهب خاصة لدى القيادات السياسية التي تُرفع لها تقارير المخابرات، فتقوم القيادة السياسية ذاتها بإعمال خيالها السياسي والاعتماد على خبراء مستقلين لقراءة الموقف بهدف التوصل إلى الرؤية الأكثر دقة في التعامل مع المواقف والأزمات السياسية المختلفة. إن فضائح المخابرات الأمريكية والإسرائيلية تدق ناقوس الخطر من العواقب الوخيمة لأدلجة أجهزة المخابرات ومخاطر الاعتماد على التقديرات الشخصية بدلاً من المعلومات الموثوقة في اتخاذ القرارات الهامة والمصيرية في الأزمات الدولية الكبرى.
منقولة